كتاب المواطن / سلامة كيلة
زمن الثورات… الآن
وإذا كانت تبدو الثورات التي حدثت في بعض البلدان العربية منعزلة، كأن الأمر يخص منطقة لا رابط لها فيما يجري في العالم، ولهذا لا يفهم سبب الاندفاع العالمي لـ”إطفاء الحريق” الذي اشتعل في تونس يوم ۱۲/ ۱۷/ ۲۰۱۰ فإن المسألة أكبر من أن ترتبط بالمنطقة فقط، وهي أعمق غورًا “مما تبدو على السطح”، الأمر الذي يفرض أن تفهم في أفق أوسع، وأن يجري تناولها من منظورات تتجاوز السطحية الرائجة، وبالتالي أن ننظر إلى “كل العالم”.
في التاريخ ليست الثورات هي السمة الغالبة، بل هي لحظات و”يجرى تجاوزها”، لكنها لحظات أعمق من أن تمر دون أثر، على العكس من ذلك فإن أثرها سيكون عميقًا جدًا، فالشعوب “تريد العيش”، لكنها توضع في ظروف تدفعها إلى الثورة، والملاحظ للتاريخ العالمي منذ نشوء الرأسمالية يلمس أن “دورة الثورات” حدثت كل خمسين سنة تقريبًا، ونتيجة أزمات عالمية انعكست على تعقيد الأوضاع المحلية لتنفجر الشعوب التي تكون قد راكمت الكثير من الاحتقان، هذا لا يعني أنه خارج ذلك لم تحدث ثورات، فقد حدثت ثورات خارج هذه الدورة، لكن لم تتخذ طابعًا عالميًا، فالأزمات المحلية يمكن أن تؤدي إلى نشوب الثورة، وأصلًا الوضع المحلي هو الأساسي في نشوبها، لكن يظهر بأن العالم كله ينهض حينما يصبح هناك “أزمة اقتصادية عالمية”، فالصراع الطبقي قائم ما دام الاستغلال هو السمة السائدة، ويمكن أن يفضي إلى الثورة، لكن تصبح هناك سمة لزمن معين حين تكون هناك أزمة في الرأسمالية، وحين كان يشتد الصراع بينها.
ثورات سنة 1848-1850 في أوروبا (بعد الثورة الفرنسية، وكاستمرار لها) ارتبطت بـ”أزمة التجارة العالمية” التي حدثت حينها، وكانت علامة فارقة في تاريخ أوروبا، حيث أفضت إلى تسريع عملية التصنيع وتطور الرأسمالية، التي استفادت من الثورات لكي تفرض حكما يدعم تطورها الصناعي في مواجهة تطور إنجلترا الذي سبق ذلك، لهذا نهضت فرنسا ثم ألمانيا صناعيًا، بمعنى أن الثورات لم تعلن “انتصار البروليتاريا”، تلك الطبقة التي خاضت الثورة، بل أعلنت انتصار الرأسمالية في البر الأوروبي.
نهاية القرن شهدت أزمة أخذت تعيشها الرأسمالية، خصوصًا بعد التطور الصناعي الذي شهدته ألمانيا، والذي أدى إلى اندفاع كبير للاستحواذ على المستعمرات، وقاد إلى نشوب الحرب العالمية الأولى، ومن ثم نشوب ثورة أكتوبر السوفيتية في روسيا، وبدء توسع الشيوعية عالميًا، ولقد حققت الثورات هنا انتقال مجتمعات كانت لازالت متخلفة زراعية وتعيش ظروف القرون الوسطى إلى الحداثة، أي إلى الدولة الصناعية الحديثة رغم أن “مطامح” و”ادعاءات” القائمين عليها كانت تتمثل في تحقيق الاشتراكية، هذا الأمر أسس لتحقيق تطور كبير في مناطق شاسعة من العالم، وإلى نشوء “قوى عظمى” في روسيا والصين.
أواسط القرن العشرين شهدنا نهوضًا ثوريًا جديدًا على ضوء تراجع وضع البلدان الرأسمالية القديمة وانهيار الاستعمار، وبدء تقدم أميركا للسيطرة على العالم وقيادة العالم الرأسمالي ضد الاشتراكية ومن أجل وقف زحفها، فقد استمرت “الثورات الاشتراكية” بعد روسيا، حيث انتصر الصين سنة 1949، وبدأت الثورة في الهند الصينية (فيتنام وكمبيوديا ولاوس)، لكن نهضت أيضًا “حركات التحرر الوطني” التي شملت بلدان عديدة في آسيا وإفريقيا.
في ثورات أواسط القرن التاسع عشر كانت النتيجة، كما أشرنا، هي الانتصار النهائي للرأسمالية في أوروبا، وتحقيق تصنيعها، وبالتالي اكتمال تطور الرأسمالية الذي أفضى مع نهاية القرن إلى تشكلها في نمط عالمي إمبريالي، حيث فرضت سيطرتها على العالم، وباتت تسد أفق التطور في كل المناطق التي لم تصبح رأسمالية بعد، سوى اليابان التي لحقت بالتطور نهاية القرن التاسع عشر، وبهذا تشكل العالم على أساس انقسامه إلى مراكز رأسمالية صناعية حديثة وأطراف زراعية مخلفة وتابعة، هي مصدر المواد الأولية (الزراعية، مثل القطن والحرير، وكذلك القمح)، وسوق السلع التي تنتجها المصانع الرأسمالية.
احتجاز التطور هذا فرض أن تكون ثورات بداية القرن العشرين “جذرية”، أي اشتراكية، حيث تكيفت الرأسمالية الناشئة في الأطراف مع التكوين الجديد، فرکزت نشاطها في قطاع “غير منافس” مادامت عاجزة عن المنافسة نتيجة اللاتكافؤ في التطور . أي ركزت نشاطها في التجارة والبنوك والخدمات، وباتت جزء من “الدورة الاقتصادية” للمراكز الرأسمالية، وخاضعة لمصالح هذه المراكز، الأمر الذي منع تطور المجتمعات رأسماليًا، بمعنى صناعيًا كما فعلت الرأسمالية الأوروبية، وهو الأمر الذي فرض أن تحمل الثورات مطالب أبعد من الرأسمالية ما دام المطلوب هو حل مشكلات الفقر والتخلف، لهذا كانت الاشتراكية هي البديل الممكن، لكن إذا نظرنا إلى التجربة الآن، سنلمس بأن هذه الثورات حققت فقط ما حققته الرأسمالية في دورة الثورات الأولى، أي حققت التصنيع والحداثة، وبالتالي بتنا نشهد تحول روسيا والصين إلى دول إمبريالية بعد أن فرض التطور الذي تحقق باسم الاشتراكية إلى إزالتها، لكن ستلمس كذلك بأن كتلة هائلة من العالم كانت مهمشة ومفقرة وتعيش “القرون الوسطى” باتت اليوم صناعية وحديثة، وأيضا تنافس في إطار النمط الرأسمالي، بالتالي فقد توسع التطور العالمي ولم تتحقق مطامح المفقرين.
ثورات أواسط القرن العشرين كانت فاشلة في تحقيق أي تقدم في بلدان “التحرر الوطني”، وهي السمة التي حكمت تلك الثورات رغم استمرار الثورات الاشتراكية، من الصين إلى الهند الصينية إلى كوبا، ومع توسع الاشتراكية إلى أوروبا الشرقية بقوة الجيش السوفيتي . فقد أسقطت تلك النظم “الإقطاع” وحاولت بناء صناعة وتحديث التعليم، لكن مطامع الفئات التي حكمت كانت أسرع في النهب من أن تسمح للتطور بأن يأخذ مجراه كما حدث في البلدان الاشتراكية، فعادت الدول إلى أحضان الرأسمالية كتابع دون منجز حقيقي.
الآن، مع بداية القرن الجديد كان واضحًا بأن أزمة الرأسمالية في تفاقم، حيث تتالت الانهيارات المالية منذ ثمانينيات القرن العشرين، وكان واضحًا بأن انهيار النظم الاشتراكية قد فتح الباب لدور أمیرکی يريد الهيمنة المباشرة على العالم من أجل تجاوز أزمته الاقتصادية، لكن الأزمة انفجرت في 15 سبتمبر / أيلول سنة ۲۰۰۸، وأفضت إلى انهيار مالي هائل بات على الدولة أن تمنع انهيار البنوك هائلة الضخامة خشية حدوث الانهيار الكلي، ولأن الرأسمالية باتت متشابكة، والرأسمال متداخل، فقد عنى ذلك أزمة ضخمة في النمط الرأسمالي ككل . لهذا نجد أن كل البلدان الرأسمالية القديمة مأزومة، وهي تعيش على هاجس الانهيار، نتيجة أزمة الاقتصاد الذي بات يشهد “انفجار الفقاعات” بعد أن سيطرت المضاربة على مجمل النشاط الاقتصادي، ومن ثم نتيجة تراكم المديونية على الدول التي باتت تحاول أن تحمل تعثرات البنوك، والتي أصبحت في وضع الخطر نتيجة وصول المديونية سقفًا لم تعد الدول قادرة على سداد فوائدها.
هذه الأزمة كانت المدخل الذي فجر التراكمات التي نشأت منذ عقود سابقة في العديد من البلدان العربية، دون أن تصل إلى نهاياتها، على العكس من ذلك لازال الأمر يتعلق ببداية، ونجد كذلك أن السياسة الاقتصادية التي تتبعها البلدان الرأسمالية التجاوز أزمتها من خلال فرض التقشف تدفع إلى تعاملات في بلدان جنوب أوروبا، وشرقها، حيث يمكن أن يقود ذلك إلى ثورات فيها، وهذا الأمر يطال كثير من بلدان العالم، في آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا كذلك، بالتالي ما ظهر بأنه خاص في البلدان العربية سيبدو عامًا يطال العالم . وربما هذا السبب هو الذي جعل شعوب العالم (وفي البلدان الرأسمالية خصوصًا) تميل إلى “تقليد” الثورات العربية وجعلها ترى فيما يجري هنا الحلم الذي يسكنها، وميدان التحریر بات رمزًا للحشود التي تريد إسقاط النظم وتغيير واقعها.
إذن، نحن في بداية موجة ثورية كبيرة ربما تكون الأضخم في التاريخ، لكن ما هي وجهتها؟ وجهتها هي ضد الرأسمالية بالضرورة، فالرأسمالية هي التي صنعت هذا العالم الذي لم تعد الشعوب قادرة على العيش فيه، ولا شك في أن كل عناصر الحداثة لا بد من أن تتمفصل مع ذلك لكي تتحقق، ربما كما حدث مع روسيا بداية القرن العشرين، لكن ما هو مهم هنا هو أن نرى الثورات العربية في هذا الأفق، وأن نتوقع المآلات انطلاقًا من أن الرأسمالية باتت تعاني أزمة عميقة تفرض تمرد شعوبها وكل شعوب العالم، وهو الأمر الذي لا يسمح بأن تجهض الثورات، وأن تفرض تحقيق تغيير جدي.
ما ينقص هو البديل، في بداية القرن العشرين كان البديل واضحًا ومبلورًا وله وجود واقعي، في أواسط القرن التاسع عشر كانت البرجوازية في قمة صعودها، الآن، نحن في زمن الثورات، لكن لم يتبلور البديل الذي يؤسس لانتصارها.
ملحق
الانتفاضة التونسية
ما هو التكتيك الضروري الآن؟
(دراسة كتبت قبل انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر سنة ۲۰۱۱، وتشير في أخرها إلى ما حدث، حيث نجحت النهضة والليبراليون).
الانتفاضة في تونس هي التي فتحت كل هذا الفيض من الثورات في الوطن العربي، وكأن برميل البارود هذا كان ينتظر حريق الجسد الذي فعله محمد بوعزيزي لكي يحدث كل هذا الانفجار، لكن يبدو أن الثورة تتعثر، ويجري الالتفاف عليها، حيث لا يشعر الشعب بأن شيئًا قد تغير، وأن دم الشهداء قد أحدث ما يوازيه من تغيير يحقق مطالب الطبقات الشعبية.
وإذا كانت الطبقة المسيطرة تعمل على إعادة بناء سلطتها بعد أن اهتزت تحت وقع ضربات الشعب، ولازال رجالاتها ممسكون بمفاصل السلطة، ويعملون على امتصاص الانفجار الشعبي من خلال تحقيق تغييرات شكلية تطال البنية السياسية للسلطة ولا تلمس النمط الاقتصادي أو العلاقات الخارجية، خصوصًا الارتباط بالإمبريالية الأميركية، وهو الأمر الذي انعكس على عدم ميل الشعب للتسجيل في قوائم الناخبين لانتخاب المجلس التأسيسي رغم مفصلية هذه الخطوة كما هو مفترض، لأنها الخطوة التي يتعلق بها “إعادة بناء الدولة”، وكذلك في استمرار كل مظاهر الاحتجاج والتذمر.
وهو الوضع الذي أطلق تعبير الالتفاف على الثورة (وفي مصر سرقة الثورة)، حيث بدا وكأن دماء الشهداء وقوة الشعب قادت إلى أن يلتف قادة الجيش على الثورة، ويعملون على تكريس بنى السلطة القديمة، أو التنازل الجزئي تحت ضغط الشارع، فرغم حل البوليس السياسي لازال يمارس دوره وإن بتسمية أخرى، ورغم حل الحزب الحاكم فقد نبت في أحزاب عديدة، والتحق جزء من أعضائه في حركة النهضة والحزب الديمقراطي التقدمي، والمحافظون لازالوا يعينون من الكادر القديم، ولم يتغير وضع الأجور، أو تتحسن فرص العمل، أو يجري التفكير في تعديل الوضع الاقتصادي.
إذن، هذه الثورة الهائجة قد خمدت دون أن تطيح بالسلطة كلها، أو حتى دون أن تهزها أو تغير في بنيتها، رغم أن الحراك السياسي بات كبيرًا، والتواصل الشعبي بات يسيرًا، وحركات الاحتجاج لا تتوقف، وبالتالي فالصراع لازال قائمًا وإن ليس على شكل الانتفاضة الهائلة تلك التي أجبرت قادة الجيش على ترحيل بن علي، ولازالت حيوية الشعب كبيرة وميله للصراع لم يتراجع، وهو يراقب ويتأمل ويتلمس ما يجري.
وفي هذا الوضع تضيع الأمور بين متابعة الانتفاضة أو المشاركة في انتخابات المجلس التأسيسي، ويصبح تحديد السياسة الضرورية أمرًا مهمًا، فهل أن تكتيك المشاركة في الانتخابات هو الصحيح؟ أو أن التعويل على الانفجار الاجتماعي من جديد هو ما يجب أن تبنى السياسة على أساسه؟ وهل من الممكن العمل على هذا وذاك معًا؟
لفهم السياسة العملية الآن لا بد من تحديد الأرضية العامة التي يجري الصراع انطلاقًا منها، أي لا بد من تحليل مبدئي للواقع القائم من أجل فهم التكتيك الضروري انطلاقًا منه، لهذا سوف أتناول مستويين، الأول يتعلق بالتحليل المبدئى للواقع، والثاني يتناول السياسة الراهنة. حيث ليس من الممكن تحديد السياسة الراهنة دون ذلك.
المستوى المبدئي
وهو يتعلق بتحليل الواقع، وتحديد ممكنات تحقيق مطالب الشعب.
ما يجب أن يكون واضحًا، في البدء، هو طبيعة الأزمة التي أفضت إلى نشوء الانتفاضة، فهذا الفهم هو الذي يسهم في تحديد ممكناتها والآفاق التي يمكن أن تصل إليها، وهل أن ما حدث هو انفجار عابر، لحظي، نتيجة أزمة عابرة، أو أنه نتج عن تكوين اقتصادي ومجتمعي بات عاجزًا عن الاستمرار؟
الالتفاف والإجهاض ممكنان حين يكون الانفجار الاجتماعي لحظي، وجزئي، وبالتالي يمكن أن تمتصه الطبقة المسيطرة من خلال السلطة، أما حين تكون الأزمة مفصلية فيكون من المستحيل الالتفاف عليها أو سرقتها، حتى وإن أخرت الطبقة المسيطرة تحقيق الانتصار، أو لم تكن الطبقات الشعبية قد بلورت بديلها فندخل في مرحلة بناء ذاتي حتمي يقود إلى تبلور البديل وانتصاره، فالأزمة هنا تولّد مفاعيل تجاوزها من خلال تطوير الدور الذاتي للطبقات الشعبية، وفي سرعة كبيرة نتيجة الحراك المباشر والفعل السياسي المكثف.
بالتالي لا بد من تلمس الوضع الذي فرض نشوء الثورات هذه، لكي نحدد الأفق الذي يمكن أن تسير فيه، أو تحتمل أن تسير فيه.
لقد حدثت انتفاضات في العديد من البلدان العربية منذ انتفاضة ۱۹/۱۸ يناير/ كانون الثاني سنة ۱۹۷۷ في مصر، إلى انتفاضات في السودان وتونس والمغرب لأكثر من مرة ثم في الجزائر والأردن والمغرب سنة ۱۹۹۰ ولقد استطاعت النظم امتصاص مفاعيلها، ووقف توسعها، من خلال التراجع عن قرارات كانت الشرارة التي فجرت هذه الانتفاضات، وتعلقت برفع أسعار الخبز في الغالب، كانت النظم تمتلك من المرونة ما يجعلها تتراجع، وكانت أزمة الطبقات الشعبية لازالت في بدايتها، لم تصل إلى حد العجز الشامل عن العيش . لقد أحست بالعجز عن العيش فانتفضت، لكن السلطة تراجعت فعادت إلى وضعها “الطبيعي”.
أما منذ ما بعد نهاية الحرب الباردة بعد انهيار النظم الاشتراكية فقد جرت تحولات عميقة في بنية الاقتصاد والتفارق الطبقي أنتجتا وضعًا لا يمكن أن يستمر، فقد فرضت السيطرة التي أصبحت للنمط الرأسمالي الإمبريالي، وللطغم المالية فيه، تكوين البنية الاقتصادية المحلية انطلاقًا من هيمنة الطغم المالية هذه، يقوم على النهب وليس على “الاقتصاد الحقيقي” (أو الاقتصاد الطبيعي)، ويتمحور حول قطاعات ريعية، هي الخدمات والعقارات والسياحة والاستيراد، وأسواق الأسهم التي باتت منفذ نهب المال المحلي من قبل الطغم المالية الإمبريالية، هنا تشكل قطاع “اقتصادي” نشط، وينمو بمعدلات عالية، وهو ضيق ويستوعب جزءًا ضئيلًا من السكان (ربما ۲۰٪)، وأصبح هناك اقتصاد منهار ومهمش، هو الاقتصاد الحقيقي (الزراعة والصناعة)، يشمل الكتلة الأضخم من السكان (ربما ۸۰٪ ).
في هذا الوضع أصبحت البطالة سمة “طبيعية” في التكوين الاقتصادي، والعشوائيات صورة واضحة (مدن الصفيح)، وإذا كانت الثروة قد تمركزت في يد فئة قليلة تحكمت بأكثر من ثلث الاقتصاد المحلي، فقد شهدت الطبقات الشعبية انهيارًا مريعًا في وضعها المعيشي، وهو الوضع الذي أوجد اختلالًا في مجمل التكوين الاقتصادي، وأسس لتناقض طبقي لا فكاك من حله، حيث لا يمكن أن يستمر تكوين اقتصادي لا يستطيع استيعاب المجموعة البشرية فيه من خلال وضعهم في هذا التكوين، لأن التهميش سوف يفرض التمرد بالضرورة، وهذا هو حال الكتل الكبيرة من العاطلين عن العمل، والذين لا يلمسون إمكانية للعمل أصلًا لأن النمط الاقتصادي النشط مستوعب، ولا توسعًا في وجود فرص العمل نتيجة “موت” الاقتصاد خارج ذاك القطاع الريعي، كذلك لا يمكن أن تستمر طبقات مفقرة دون أن تتمرد بعد أن تكون قد وصلت إلى حافة الموت جوعًا، وتراكم الاحتقان إلى الحد الذي جعلها لا تجد فارقًا بين الحياة والموت.
لكن الأهم هو أن الصراع هنا لا يتوقف قبل أن يحقق تغييرًا عميقًا يعيد التوازن في البنية الاقتصادية، وفي الوضع الطبقي، هذا ما حدث بعد الحرب العالمية الثانية حينما نهض الريف المفقر والمسحوق بفعل الاضطهاد الإقطاعي العنيف والذي كان يتهمش، وكان الإفقار يجعل العمال يخوضون الصراع الطبقي، وطموح الفئات الوسطى بالتحرر والتطور يتصاعد، كل ذلك يفرض التغيير العميق في التكوين الاقتصادي، والذي فرض نشوء الشكل الذي يحقق التغيير حين غابت الأحزاب السياسية التي تحمل مشروع التغيير.
الوضع الآن هو في هذه اللحظة، لحظة التغيير العميق، التغيير الذي يعيد صياغة التكوين الاقتصادي بما يعيد دمج كل هذه الكتلة الاجتماعية، ويحقق لها وضعًا معيشيًا مريحًا يجعلها تتجاوز البطالة والإفقار، فهي لن تتوقف قبل الوصول إلى ذلك لأنها لم تعد تحتمل وضعها على الإطلاق، والسلطة لم تعد قادرة على صوغ الوضع بما يحقق الاستقرار، لم تعد تمتلك المرونة من أجل تقديم تنازلات هي ضرورية من أجل الاستقرار، فالتنازلات باتت تطال بنيتها وأساس وجودها، بالتالي فإن طرفي التناقض تشكلا في تكوين تناحري لا حل له سوى بالتغيير العميق.
وفي وضع عالمي يشهد أزمة رأسمالية عميقة لازالت تتصاعد، ولا يبدو أن لها أفقًا واضحًا، وهي الأزمة التي تزيد من تعمق المشكلات المحلية، ويدفع إلى تجاوز الرأسمالية، فضخامة الأزمة الإمبريالية تؤدي إلى النهب الفظيع لكل بلدان الأطراف، وشعوب المراكز، ووضع الشعوب تحت عبء المضاربة على السلع والخدمات مما يرفع أسعارها بشكل لا يتوازن مع الأجور، بل يفرض تدميرها، وهو ما يجعل الرأسمالية المافياوية المحلية في وضع حرج وصعب كذلك، لأنها تسهل عملية النهب الإمبريالي، لكنها تواجه من قبل الطبقات الشعبية.
وهذه مسألة لا يجوز تجاهلها، أو الاعتقاد أن الرأسمالية قادرة على المناورة.
هذا الوضع يوصل إلى أننا دخلنا في “عقد من الثورات، “عقد ثوري”، ربما، بمعنى أن ما بدأ في سيدي بوزيد هو أبعد من أن يكون بداية موجة عابرة، بل هو بداية صراع حقيقي تخوضه الطبقات الشعبية، لا يمكن أن ينتهي دون نهاية النمط الاقتصادى القائم، وبالتالي النمط الرأسمالي، حيث ليس من الممكن إنهاء الاقتصاد الربيعي الذي تبلور، والعمل من أجل إعادة إحياء الزراعة وتطويرها، وبناء الصناعة، وتحديث التعليم والاهتمام بالصحة، دون الصدام مع الإمبريالية ذاتها، فالشكل الريعي هو المطابق لمصلحة الطغم الإمبريالية، وكل تغيير يفرض الصدام مع هذه الطغم، حتى وإن كان الهدف هو تحسين الزراعة من أجل الإحلال بدل الاستيراد، أو بناء صناعات بسيطة، أو العودة إلى التعليم المجاني، والمؤسس على قاعدة علمية، أو حتى الالتفات إلى صحة الشعب، فالشركات الاحتكارية الإمبريالية تريد الأسواق من أجل تصدير السلع الصناعية والزراعية، والطغم المالية تريد القطاعات التي تدر الربع الأعلى، والتي تحقق النهب الأوسع وهي هنا السياحة والبنوك والسواق الأسهم والخدمات والمضاربة في العقارات.
وإذا لم يكن تجاوز النمط الاقتصادي يعني تحقيق الاشتراكية الآن، فإنه يعني أن كل تغيير لا بد من أن يسقط الطبقة الرأسمالية المسيطرة، وبالتالى التصادم مع الإمبريالية، وأيضا البدء في بناء اقتصاد منتج تلعب الدولة دورًا محوريًا فيه (نتيجة التكوين الريعي للرأسمالية أساسًا).
الخلاصة هي أنه مهما كانت نتيجة هذه الموجة من الثورات فإن الانتفاضات مستمرة، وليس من الممكن أن يجري الالتفاف عليها مهما حاولت الرأسمالية المافياوية الحاكمة، أو الطغم الإمبريالية راعيتها، وهذا هو معنی “عقد ثوري”، حيث سيستمر الصراع، وإن هدأ قليلًا، أو اتخذ شكل إضرابات جزئية، وأشکال احتجاج متفرقة، فالانفجار عن جديد قادم بالضرورة، وهذا ما يجب أن يكون في أساس كل إستراتيجية يبلورها الشيوعيون، المحور هو تطوير الصراع وتنظيم العمال والفلاحين الفقراء، سواء في حزب أو في نقابات واتحادات، وكذلك تنظيم الفئات الوسطى في نقابات واتحادات، والانتباه لموجة الصراع في تراجعها الجزئي أو تصاعدها، من أجل التقاط اللحظة التي تعود حالة الاحتقان إلى نقطة الانفجار.
وكل سياسة أخرى هي تكتيك لا بد من أن يخدم هذه الإستراتيجية.
السياسة الراهنة
ما هو التكتيك الضروري؟
الآن على صعيد الوضع الراهن، كيف تجري الأمور؟ وما هو التكتيك الضروري للقوى الماركسية؟
لم توصل الانتفاضة إلى إسقاط النظم كما طالبت الطبقات الشعبية، حيث لم تفرض في السلطة بديلًا عن الطبقة الحاكمة، رغم أنها أسقطت رموز الحكم السابق، وما هو واضح أن البنية الأمنية للنظام القديم لازالت تمسك بكل الأمور، وأن مؤسسات السلطة لازالت تنحكم لرجالات “العهد البائد”، وأن السياسة المتبعة تنطلق من إعادة إنتاج النظام القديم في شكل جديد فقط، ينطلق من تغيير الأشخاص وضم أحزاب كانت في المعارضة لا تختلف في المصالح عن مصلحة الطبقة الراسمالية المافياوية المسيطرة، بمعنى أن السلطة تعيد إنتاج ذاتها في شكل جديد ولا تريد أن تتنازل حتى عن السيطرة التامة على الحيز السياسي من خلال تأسيس دولة ديمقراطية، إن مسألة الدولة الديمقراطية المدنية باتت مطروحة للتساؤل، وما يجري لانتخاب مجلس تأسيسي يصيغ دستورًا جديدًا يدفع نحو نجاح قوي يعبر عن جوهر النظام القديم لأنها تترابط مع الطبقة الرأسمالية المسيطرة من بقايا الحزب المنحل وبعض أحزاب المعارضة السابقة الليبرالية والإسلامية، من أجل أن يصاغ الدستور وفق المصالح ذاتها وفي الحدود التي تضمن السيطرة الطبقية ذاتها، ومن الواضح بأن حدود الديمقراطية الممكنة ستكون ضيقة لأن الرأسمالية التي تشكلت على أساس مافیاوي، وأسست دولة بوليسية هي في التصاق ضروري بنشاطها، وفرضت تهميش الطبقات الشعبية وإفقارها وتعميم البطالة لديها، ليست معنية بأن تفتح على حريات وآليات ديمقراطية (غير الانتخابات التي ستكون شكلية تحت وطأة الدولة البوليسية) وتقوم على مبدأ المواطنة وإرادة الشعب، والحق في النضال المطلبي والنقابي، وما إلى ذلك.
وإذا لم تكن قوى الثورة تسمح بطرح مسالة تغيير النمط الاقتصادي نتيجة غياب الفعل السياسي الذي يحمل هذا المطلب الجوهري، حيث كان نور اليسار غير قيادى رغم فاعليته إلى حد ما، فإنه يتبين أن القوى الليبرالية التي كانت في المعارضة لا تحمل مشروعًا ديمقراطيًا، ومن الطبيعي ألا تحمل القوى الإسلامية هذا المشروع، ولهذا لا يبدو أن الصراع مستمر حتى من أجل فرض دولة ديمقراطية من قبل هذه القوى، حيث تتسابق من أجل التفاهم مع بقايا الحزب المنحل لكي تدخل المجلس التأسيسي وتصبح هي المعبرة عن هذه الطبقة المافياوية، وستنجح نتيجة قدرتها على التنظيم السريع لأسباب متعددة، وأيضا لأن التسريع في الانتخابات كان لا يمنح قوى الانتفاضة الوقت لكي تتبلور، وكان هذا هو هدفه بالأساس.
إن الأمور تهيأ في المرحلة الانتقالية لسلطة لا تختلف كثيرًا عن السلطة السابقة، وتعتمد على “بنيتها الصلبة” المتمثلة في كادرات الدولة والبوليس السياسي والجيش، مع شكل “ديمقراطي” يتبلور على ضوء الانتخابات القادمة.
إذن، ما يمكن قوله هنا هو أن الرأسمالية المافياوية تقاتل من أجل إعادة إنتاج السلطة القديمة التي تعبر عن مصالحها، لكن في شكل جديد أشرت إليه للتو، وهی متمسكة بذلك لأنها لا ترى إمكانية لأن تسيطر أو تنهب، أو تسهل النهب الإمبريالي، خارج هذه الصيغة “البوليسية”، والتي لا تسمح بحريات حقيقية، أو تنافس متكافئ، أو انتخابات عادلة.
ولاشك في أن الانقسام السياسي الذي حكم العقود السابقة قد انتهي، حيث انتهى الحزب الدستوري، وتفككت المعارضة السابقة إلى أحزاب سارعت إلى الاندماج بـ”النظام الجديد”، وأخرى استمرت في صراعها من أجل تحقيق مطالب الشعب التي تبدأ بتغيير بنية السلطة كلها. وتغيير الخيارات الاقتصادية والسياسية بما يحقق مصالح الشعب.
بعض أحزاب المعارضة كانت أقرب إلى أن تكون ناقدة السلطة بن على ولم تفكر في إسقاط النظام، مثل حركة التجديد وحزب العمل الوطني الديمقراطي (الذي كان يهدف إلى التحصل على الشرعية خلال حكم بن علي)، والحزب الاشتراكي اليساری (وكانت تشكل تحالفًا فيما بينها)، ولقد كانت أقرب إلى طرح تصور إصلاحي في إطار سلطة بن علی.
وأحزاب أخرى كانت في صراع مع نظام بن علي، مثل الحزب الديمقراطي التقدمي وحركة النهضة وحزب العمال الشيوعي التونسي (وكانت تشكل تحالفًا فيما بينها هو تحالف 18 أكتوبر)، وكانت تعمل على تغيير النظام وتأسيس دولة ديمقراطية، ولقد لعب حزب العمال الشيوعي دورًا مهمًا في الانتفاضة، ولعب شباب الحزب الديمقراطي التقدمي دورًا أيضا (والحزب عمومًا)، أما حركة النهضة فلم تلعب أي دور فيها، وكان السبب المطروح هو نزوح أعضائها إلى الخارج نتيجة العنف الذي مورس ضدها.
وإذا كانت حركة التجديد قد مالت إلى الالتحاق بالسلطة منذ أن أعلن بن على إصلاحاته ليلة خلعه، فإن الحزب الديمقراطي التقدمي قد فعل الشيء ذاته، حيث دعم الإصلاحات، ولهذا التحقا مباشرة بعيد رحيل بن على بالحكومة التي شكلها رئيس وزراء بن علي، محمد الغنوشي، وأصبحا جزءًا من “النظام الجديد” ونلمس بعد عودة حركة النهضة بأنها تميل إلى التوافق مع ” النظام الجديد ” وتعتقد بأنها ستكون بعد انتخابات المجلس التأسيسي هي القوة الأساسية فيه، وبالتالي نلمس بأن هذه القوى أصبحت تتصرف وكأنها هي “النظام الجديد”، بعد أن ضمت (فيما عدا حركة التجديد) عناصر كثيرة من الحزب الدستوري، وباتت تعمل لأن تكون البديل عنه بأعضائه.
وهنا نلمس تشكل وضع سیاسی جديد يقوم على تحالف سلطوي من بقايا الحزب الدستوري والقوى الليبرالية والإسلامية من أجل أن تشكل النظام من خلال انتخابات المجلس التأسيسي، الذي سيجعلها تصيغ الدستور الجديد، وتشكل الحكومة الانتقالية التي تشرف على الانتخابات البرلمانية القادمة، وهذه القرى لا تطرح موقفًا مختلفًا فيما يتعلق بالنمط الاقتصادي (سوى بعض الإصلاحات ربما)، وتتكيف مع “المستوى الديمقراطي” الذي يتشكل الآن في ظل سيطرة “الجهاز القديم”، وبالتالي ستقبل في دولة ديمقراطية شكلًا، وستدافع عن هذا الشكل الديمقراطي الهش، وفي تحشد الآن، وتجيش مدعومة من كبار المافيات (الحزب الديمقراطي التقدمي خصوصًا)، والرأسمالية التقليدية (حركة النهضة)، وتسعى لأن تسيطر على المجلس التأسيسي.
وإذا كان “الجهاز القديم” يعيد ضبط الوضع، فهو يعمل على ترتيب الأغلبية التي يجب أن تشكل المجلس التأسيسي، وهو هنا يدعم ويتوافق مع القوى الليبرالية والإسلامية، لكنه سيدعم قوی من بقايا الحزب الدستوري، ليشكل كل هؤلاء النظام الجديد، وهو يشتغل بجد من أجل أن تنتج الانتخابات هذه القوى، خصوصًا وأن الآليات القديمة لم تتغير على الإطلاق.
هذا يطرح السؤال حول فائدة الانتخابات، وحول السياسة التي يجب أن يتبعها الماركسيون.