كتاب المواطن / سلامة كيلة
الفصل الرابع:
الشعب حين يثور
أي معنى للشعب؟ وأي منظور له؟
في كل النقاشات والتحليلات التي تتعلق بالثورات في الوطن العربي، يبدو أن الغائب الوحيد هو الشعب رغم أنه هو الذي صنع الثورات ولا زال، كل النقاش يذهب إلى تناول النظم والإمبريالية والأحزاب، والإمبريالية هنا يجري تناولها من منظور سياسي، أي بمعنى التدخل الذي تقوم به الدول والضغوط التي تمارسها، والسياسات التي تتبعها من أجل السيطرة.
أي يبقى النقاش والتحليل منحصرين فيما يمكن أن نطل عليه “المستوى السياسي”، الذي هو “فوق” الشعب، فالنخب ترى أنها “فوق”، فلا تنظر إلى “تحت”، حيث ربما “الغوغاء”، أو البسطاء “الطيبون”، لكن الذين لا يفيدون في شيء في “القضايا الكبرى”، التي هي السياسة والدولة.
في كل ذلك ليس من شعب، هو شيء ينظر إليه من علٍ، وربما يكون وسيلة تستخدم في خطاب تبرير، مصطلح يذكر لتأكيد شرعية أو التعمية على سياسة معينة، فتبقى السياسة هي ذلك النشاط الهادف إلى تناول الدولة والسلطة، لتبرير الحكم أو لنقده ورفضه، وبهذا ينظر إلى الإمبريالية التي يتكرر ذكرها كثيرًا في الخطاب “اليساري” كسياسة عدوانية، وليس كتكوين اقتصادي عالمي، فيبتر كل العالم في بضع مصطلحات، مثل الإمبريالية، الديمقراطية، الحرية، الاستبداد والدكتاتورية، السلطة والمعارضة، وفي كل ذلك ليس من شعب، رغم أن ذكر كل هذه المصطلحات يدرج في “خدمة الشعب”، وتوضع “الأهداف السامية” منها في سياق تحقيق مطالب الشعب، والأخرى في سياق الدفاع عن الشعب.
وإذا كان يربط كل ما هو اقتصادي وطبقي بمنظور ماركسي، فقد عنى البعد عنها عدم رؤية “الانسان الواقعي”، الإنسان بصفته كائنًا يحتاج إلى العمل، وإلى الأجر لكي يستطيع العيش أولًا، قبل أن يفكّر في المجتمع والحياة والسياسة والدولة، وبالتالي الحرية والديمقراطية والوطن والإمبريالية، ويتلمس الاستبداد والدكتاتورية، أي يحتاج إلى “الوجود البيولوجي” قبل أن يتقبل “الوجود الأيديولوجي”، بالتالي تصبح مسائل الوجود المعيشي هي التي تفتح على فهم الاقتصاد وكل التوضّع “السياسي” له، وهي التي تفتح على فهم طبيعة تكيفه أو رفضه للتكوين الاقتصادي السياسي الذي يحكمه، ولهذا تكون مسائل السياسة بعيدة عن تحسسه، خصوصًا فيما يتعلق بالأفكار، ومن ثم تفسير تلمسه الضغط السلطوي عبرها.
الانحسار في المستوى السياسي يفقد القدرة على فهم واقع الناس، وطبيعة مشكلاتهم، وربما لا يلمس إلا طابع “وعيهم”، وبالتالي يفقد القدرة عن معرفة طبيعة “احتقانهم”، وحدود انضغاطهم بفعل الوضع الذي يعيشون فيه.
المنظور السياسوي هذا فرض ألا تتوقع النخب حدوث الثورات أصلًا بالضبط لأنها لم تكن تتلمس الاحتقان المتنامي لدى الشعب، ولم تكن على معرفة بالوضع الاقتصادي المزري الذي يعيشه، وبالسحق الذي يشعر به، وبالمهانة التي يتعرض لها من قبل نظم استبدادية مافياوية، فهذا المستوى ليس من اختصاصها، لأنها معنية بـ”القضايا الكبرى”، ولهذا فالشعب ليس من هذه “القضايا الكبرى”، التي ستبدو، في الواقع، كتجريد وعموميات، حيث لم يلتفت هذا الشعب إلى السياسة، ولم يطرح مسائل الحرية والديمقراطية، ولا دعم هذا الحزب أو ذاك، لهذا لم يدخل في “المجال الراداري” للنخب، التي كما قلنا انحصرت في “المستوى السياسي”، الأمر الذي جعلها بعيدة عن تلمس تراكم الاحتقان كلما ارتفعت الأسعار، وتجمدت الأجور، أو تقلصت إمكانيات العمل، أي كلما ازداد عدد العاطلين عن العمل والمفقرين.
وكذلك كانت بعيدة عن معرفة ماذا يعني تراكم الاحتقان، وأنه سينفجر في لحظة ما ليحدث ثورة هائلة، بعد ذلك كيف يمكن أن تفهم معنى أن يثور الشعب؟
الأسباب الموضوعية للحراك الشعبي؟
الشعب تعبير ظل مجردًا أو عموميًا، وأساسًا مصطلح يتكرر دون أن يشير إلى شيء معين، ولهذا لم يكن مجال فهم من قبل “النخب”، وظلت مشكلاته عصية على الفهم، فقد كانت السياسة ترتبط بما يتعلق بالدولة والأحزاب بالأساس، وهذا الأمر هو الذي جعل ما جرى منذ 17/12/2010 في سيدي بوزيد التونسية وامتداده العربي مفاجئًا، وفرض أن يصبح تعبير الشعب مكررًا ومتكررًا، لأن هذه الجموع التي كانت مهملة هي التي فرضت ترحيل رؤساء لطالما جرى اعتبارهم دكتاتورين عتاة.
إن الثورات التي بدأت في تونس وتوسعت إلى مصر والبحرين وليبيا واليمن وسورية، وطالت الجزائر وعمان والعراق والأردن، ولمست السودان والمغرب، هي من فعل الشعب الذي كان خارج كل حساب في الصراع السياسي بين النظم والمعارضة، وإذا كانت الأحزاب تنطلق من “السياسي” في علاقتها بالنظم وتركز على مطالب “سياسية” فقط، ومحورت صراعها كأحزاب في العلاقة مع السلطة، بالتالي دون حساب للشعب، أو توقع بدور له، أو حتى العمل لأن يكون له دورما، فإن الشعب تحرّك دون انتظار هذه الأحزاب، وفي حركة واقعية انبنت على تجاوزها فعليًا، ما يجعلنا نقول أنه ليس من الفعل السياسي هو الذي جعل الشعب ينهض بل لا بد من أن نبحث عن الجذر الذي يسمح لنا بفهم هذا الانفجار الشعبي الكبير بعد عقود من الركود والتكيف وحتى “الخنوع”، الأمر الذي يفرض أن نبحث في الظروف التي أسست لذلك، والتي أوجدت لحظة “الانقلاب” في “طابع” الشعب، والتي فرضت تحول الركود إلى فعل ثوري كبير، والتكيف مع الوضع الذي أوجدته النظم إلى التمرد عليها، وتجاوز “الخنوع” نحو فرض الإرادة الشعبية.
هذا الوضع الذي فرض أن يتحول مصطلح الشعب إلى شعب فعلي، فاعل وقادر، فرض أن نلمس إشكالية الأحزاب والنخب، لكن بالأساس أن نفهم الأساس الذي حوّل التعبير “المجرد” إلى وجود فعلي، وجعل “الغائب” هو الذي يملأ الصورة فعليًا.
يمكن أن نقول أولًا إن العلاقة بين الشعب والنخب كانت مرتبكة دائمًا، حيث تكون مطامح الشعب هي غير مطامح النخب، النخب تنطلق من “الشأن العام”، وتطرح المهمات التي تتعلق بهذا “العام”، لأنه خاصتها بالضبط، والشعب ينطلق من وضعه “الخاص”، أي من مقدرته على العيش والمسألة الوحيدة التي تفرض تجاوز ذلك هي المسألة الوطنية التي تدفع الشعب لأن ينخرط في الصراع، ربما لأنها تمس كيانه ككل.
في الصراع الداخلي إذن هناك “تفارق في المنظور” بين الشعب والنخب، هذا الأمر هو الذي يجعل النخب تميل عادة إلى تجاهل الشعب، وحتى “الاستعلاء” عليه والنظر إليه ككيان هامد، مستكين، خانع، لهذا كان الميل لطرح السؤال: لماذا لا يثور الشعب؟ متداولًا لعقود، وظلت النخب تتصرف “وحيدة”، وظنت أنها تقارع النظم بـ”قوتها”، وهو الأمر الذي كان يشعرها بالعجز الدائم، ويجعلها تنطلق في رؤيتها من اختلال ميزان القوى “المطلق” والمستمر، لهذا ظلت إصلاحية أو تعلقت بالمراهنة على “الخارج”.
الشعب لا يميل إلى السياسة، هذه بديهية تبلورت خلال قرون، فهو كشعب ينطلق من “وجوده في الحياة” بعيدًا عن السلطة (أو الدولة)، وفي ممارسة علاقاته “الاجتماعية” وإعادة إنتاج الحياة من خلال العمل والتوالد، ولهذا يتحكم لهذا الأساس، وينطلق منه، ولقد تكيّف الوعي الجمعي مع هذه الوضعية، هذا الوعي الذي جعل الدولة شيئًا آخر، مخيفًا وسلبيًا، لهذا يعيش بعيدًا عنها، ويهرب من الاحتكاك بها، ويقبل التكيّف مع سطوتها إلى حدّ كبير، هذا هو الوضع “الطبيعي”، الذي يجعله لا يميل إلى تناول “الشأن العام”، أو الهمس به فقط في الخفاء، وهو الأمر الذي يجعل النظر السطحي يصل إلى الاستنتاج بأن الشعب خانع ومتكيّف وسلبي، خصوصًا حين يتعلق الأمر بالحريات السياسية والديمقراطية عمومًا، وهو الأمر الذي يخصّ النخب بالأساس، ويكون أساس نظرها إلى الواقع، ولا يبدو أنه من أولويات الشعب الذي يجهد من أجل العيش.
هذه الإشكالية تظهر واضحة حين يكون المجتمع في وضع “استقرار طبقي”، أي حين تكون الأجور كافية للعيش، أو تحقق عيشًا جيدًا لقطاع كبير من الشعب، وهذه الوضعية “الساكنة” هي التي تنطلق منها النخب لإصدار الحكم على الشعب، بحيث يظهر كـ “لامبالٍ” في نظم استبدادية، لأن هذه النخب تنطلق من “السياسي” في الحكم، ووفق نظر يقوم على أساس المنطق الصوري الذي يسمح لها بـ”كشف” سكون الشعب دون فهم سبب ذلك، ويقودها إلى افتراض أن على الشعب أن يكون معها من أجل تحقيق هذا “المطلب الكبير”، و”الذي يخدم كل المجتمع”، وبالتالي يجب أن يكون من مهمات الشعب وليس من مهمتها هي، وهذا التحليل الافتراضي هو الذي يجعلها تصدر الحكم على الشعب، ويؤسس لـ”حقد دفين” نتيجة إبقائها في الصراع السياسي وحيدة دون دعم شعبي، فالشعب يجب أن يكون معها ما دامت تعمل على تحقيق “القيم العليا”، وتعمل من أجل “الشأن العام”.
لكن ليس هذا هو وضع الشعب دائمًا، فسوف نلمس أن التاريخ شهد ثورات كبيرة، عفوية، وتتسم بالبطولة، قام بها الشعب وحده، أي بعيدًا عن النخب التي كانت تبني أحلامها في مكان آخر، وظهر فيها القوة التي تريد تحطيم السلطة، والتي تحمل “الشأن العام” على عاتقها، هذا ما نشهده الآن في الثورات في الوطن العربي.
لماذا يثور الشعب؟