المواطن/ كتابات – ريان الشيباني
كنت في مقاعد صالة الانتظار بمطار رفيق الحريري مغادرا إلى القاهرة، في محطة ترانزيت، عندما قدم موظف طيران “الشرق الأوسط” بزي أبيض وكاب أسود، ويجهد بدفع عربة ممتلئة بالمتاع، لامرأة سبعينية غاية في الأناقة والجمال، وترافقهما عاملة فلبينية، في منتصف العمر، مرتسم على وجهها خارطة من الكفل، وتلف شعرها بطريقة ذيل الفرس، وتمسك بيدها اليمني، وبعناية، معطف بياقة من وبر النمر.
أوقف الموظف عربة الامتعة أمام ركبتي، وطلب مني بصيغة لم أعد أتذكرها، إخلاء الكرسي للسبعينية. تلفتُ حولي، فرأيتُ أن معظم الكراسي على طول الممر، خالية، ولأني آتي من بلد ثقافته الاجتماعية غاية في البساطة، غادرت مقعدي، إلى مسافة متر تقريبا، حيث كراس أخرى. لقد كان ذلك بدافع من أمرين: احترام المرأة، ومراعاة سنها.
ومع تصرفي الذي اعتقدته غاية التهذيب، ظلت المرأة ترشقني بنظرات عدائية، ففهمت أن المسافة التي اتخذتها ليست مناسبة لتشعر تجاهي بالامتنان.
بعد دقائق قليلة أدركت من تصرفات الموظف ولهاثه، أن طلبهم مني مغادرة مقعدي، هو أمرا وليس فضلا، لأن العجوز التي كانت في حضرتي هي من ركاب الدرجة الأولى.. عاد الموظف، وقد تلبست محياه، مسحة مسكنة:
-ولو أقللت أدبي.. أرجو منكم مغادرة هذا الكونتر، إلى مكان آخر.. لديكم ساعة إلا ربع حتى يأتي الموظف المناوب لتدبر رحلتكم.
-هل هناك من سبب لهذا الأمر؟
-أخشى أن يكون وجودكم مبعث قلق لسيدة الأعمال الفاضلة.
-إذا لم يكن هناك أي خرق للقانون، لن أغادر مقعدي.
استوى الموظف وبعد لحظة من الحيرة أبلغ السيدة العجوز بقراري، فسمحت له، على مضض، الذهاب لتدبر أموره..
ولحظة بلحظة، تطور الأمر إلى معركة أخذت طابعا حديا. لقد قررت العجوز استخدام سلاح عينيها وملامحها الفتاكين المنفرين، في محاولة منها لخلق مجال أكثر استحواذا. أما أنا وقد صرت، بخديعة الأعراف، في الكرسي الذي لا أريد، استبدت بي رغبة متأججة لتجريب اسلحتي:
أخرجت من كيس بلاستيكي في يدي جوربين، كنت قد غسلتهما قبل ثلاث ساعات في حمام فندق بوسط البلد، وبفعل الأجواء الحارة الرطبة لصيف بيروت، رفضا أن يجفا.. شممتها وأنفي يلتقط الرائحة ويرتعش كأرنب بري، بعد أن عبقت منهما رائحة الصابون الزكية. وشرعت بإجراء محادثة مع زميل كان برفقتي، وعلى مسامعها:
-جوارب وسخة ومتعفنة جدا، لكني لازلت بحاجتها. لن أعود إلى اليمن دون جوارب. وأريته كيف انني ألبس حذاء متعرقا على أقدام عارية. ومن ثم عدت لتقييم مسرح العمليات، بمراقبة رود أفعال الجارة في مربع الهاي كلاس.. فكانت غاية في الاشمئزاز، حتى راهنت أنها ستتقيأ بعد قليل، وتأتي على سمعة المكان كاملا.. ولأن نظراتها كدرت من استمتاعي باللاشيء، ابتهجت لنتائج الجولة الأولى من النزال وراق مزاجي قليلا، ولم يفتن التعبير عن روح هذا التحول، لزميلي:
-يا لها من حياة جميلة!
ولأنه لا يمكن الاعتماد على اشمئزاز متعجرفة، لتقول أنك انتصرت، عمدت إلى تكتيك جديد.. أومأت بالجوربين لزميلي وطلبت منه أن يساعدني على نز المياه منهما، لكن، بجفافهما النسبي، عاندا ورفضا مواصلة إمتاعي، فاهتديت إلى حيلة، لجعل الأمر سلسا، ولأجنب نفسي ضغينة شخصية بحق عابر سبيل:
نفضت الجوربين وحدقت فيها بإعجاب، ثم نشرتهما في مسند الكرسي الخاص بي.. وأبديت شعورا مزيفا بالارتياح، وأنا أضع ساقا على ساق، وآخذ وضع استرخاء، واستنشق عبير الجوربين المحاذيين لرأسي وأحنيت منه لتفقد مسرح العمليات لمرة أخيرة.
سمحت العجوز لنفسها بتوجيه همهمات لم أكن مهتما لتملي ما تحويه من اهانات، حدقت بعيني تجاهها بإيحاء المنصت، وعندما ظنت أنني مهتم بما تقوله، انحرفت إلى زميلي، واستشرته:
-لدي ملابسي داخلية مبتلة، هل ترى ان هناك وقت لو نشرتها على هذا الحامل.. واشرت إلى مقبض حامل الأمتعة ذو العجلات.
أقفت العجوز لخادمتها الجالسة بحرص بمحاذاتها وأعطت لها توجيهات. ذهبت الخادمة راكضة في الممر، ومعطف الفرو بحوزتها، فرأيت أنها فرصة ثمينة لأخذ قيلولة..
أما وقد عادت الخادمة، بعد خمسة دقائق، يتقدمها الموظف بخطوات وثابة كنت أقوم بالإجراءات التقنية الأخيرة لارتداء جوربي..
وفي غمرة انشغالهم ببعضهم، واصلت محادثة حقيقية مع زميلي، عما يمكن أن تؤول إليه الأمور. وبعد دقيقة، إلم يكن أقل، كنت أراقب من على مقعدي السابق، المسافرة وطاقمها، يتضاءلون بعيدا مع أمتعتهم في الممر.
27 آب/أغسطس 2018
*نقلا عن “مواعيد اخيرة”