المواطن / خاص
ينشر لكم المواطن أوراق الندوة السياسية التي نفذها القطاع الطلابي للحزب الإشتراكي اليمني بمحافظة تعز يوم السبت الماضي ، تحت عنوان “الإغتيالات السياسية ودورها في إعاقة مشروع الدولة المدنية الحديثة”، وناقشت الدورة جريمة الإغتيال السياسي كمدخل عام، ودور الإغتيال السياسي في إعاقة مشروع الدولة المدنية الحديثة، والاغتيال السياسي من منظور تاريخي وقانوني ، وآثاره على المجتمع والإنسان.
الورقة الأولى :
محاولة في تفكيك ظاهرة/ جريمة الاغتيال السياسي (*)
عيبان محمد السامعي
(1)
ظاهرة الاغتيال السياسي ظاهرة تاريخية قديمة تضرب بجذورها عميقاً في تاريخ البشرية, نشأت وتطورت ارتباطاً بنشوء السلطة السياسية وتطور ممارساتها القمعية.
يأتي الجذر اللغوي للاغتيال من: غاله, غوله, واغتاله: أي أخذه من حيث لا يدري فأهلكه.
والغُول: (الجمع غِيلان), والغِيلان في المخيال الشعبي عند العرب هي الشياطين التي تظهر للناس في الفلاة فتتلون لهم في صور شتى وتغولهم؛ أي تضللهم وتُهلكهم.
والغيلة: الاغتيال. يقال قتله غيلةً: على غفلةٍ منه.[1]
وفي الاصطلاح السياسي يعني الاغتيال (Political Assassination) ظاهرة استخدام العنف والتصفية الجسدية بحق شخصيات سياسية كأسلوب من أساليب العمل والصراع السياسي ضد الخصوم, بهدف خدمة اتجاه أو غرض سياسي.[2]
والاغتيالات السياسية ظاهرة وجريمة في آن, فهي ظاهرة اجتماعية تاريخية بحكم تكرار حدوثها وانتشارها زمانياً ومكانياً, فضلاً عن تعدد واختلاف أسبابها ودوافعها. ومن ناحية التوصيف القانوني هي جريمة وضرب من ضروب القتل العمدي, محرمة دينياً, ومجرمة قانوناً, ومرذولة اجتماعياً.
إن جريمة الاغتيال السياسي ليست جريمة عادية بل جريمة مركبة ومعقدة, وهناك فروقات بيّنة بينها وبين جريمة القتل العادي, فمن ناحية أولى: عملية القتل العادي جريمة فردية جنائية, يقوم بها فرد أو مجموعة بسيطة من الأفراد بدافع الثأر أو الانتقام الشخصي أو بدوافع أخرى. بينما عملية الاغتيال السياسي جريمة منظمة ومركبة, ودوافعها سياسية في الغالب, وتتم بتخطيط وتدبير معقدين, وتقوم بها جهة منظمة, تمتلك إمكانيات وقدرات مخابراتية وأمنية وعسكرية كبيرة, وما القاتل إلا أداة تنفيذية وحسب.
ومن ناحية ثانية: جريمة القتل الجنائي تستهدف إنساناً عادياً, وتنحصر تداعياتها في إطار ضيق: على مستوى الأسرة, أو العشيرة, أو القرية, أو الحي السكني, فيما جريمة الاغتيال السياسي تستهدف أشخاصاً مؤثرين في مجتمعاتهم مثل: زعماء سياسيين, قادة عسكريين, مفكرين, أدباء, مثقفين, صحفيين, ناشطين …إلخ, وتداعياتها وتأثيراتها تمتد إلى المجتمع بأسره.
ومن ناحية ثالثة: تأخذ عملية القتل الجنائي شكلاً واحداً وتتم في اتجاه واحد. وبخلاف ذلك, تأخذ عملية الاغتيال السياسي ثلاثة أشكال: الاغتيال المعنوي والاغتيال المادي والاغتيال “القانوني”, إن جاز التعبير, والشكل الأول يقود بالضرورة إلى الشكل الثاني ومنه إلى الشكل الثالث. فالاغتيال المعنوي يهدف إلى تحطيم رمزية ومكانة الضحية, بالتحريض والتشهير والتشويه, وصولاً إلى إصدار فتوى تكفيرية تجيز استحلال دمه, وهنا تتجسد الجريمة كفعل مادي بتصفية الضحية جسدياً, وبعد أن تنفذ الجريمة بنجاح, يأتي دور التغطية على المجرمين والمخططين والممولين من خلال أحابيل القانون والاجراءات الشكلية الهادفة إلى دفن القضية وتقييدها ضد مجهول أو مختل عقلي..!
(2)
تنطوي جريمة الاغتيال السياسي على دلالات شتى, فهي أولاً نقيض للسياسة, فالسياسة لا تكون إلا مدنية, وتقتضي بالضرورة الحوار واعتماد منطق الإقناع والقبول بالآخر.
إن السياسة هي فعل اجتماعي تاريخي تتأسس على فكرة اتفاق الناس على شكل الحكم الذي يناسبهم من خلال عقد اجتماعي أو دستور وطني, وتتوخى الخير العام, أي أنها فعل تغييري باتجاه الأفضل والجديد والأجد.
وفي المقابل, فإن الاغتيال السياسي فعل وحشي نقيض للسياسة, وللخير العام, وللتغيير, وللمستقبل.
بعبارة أخرى: الاغتيال السياسي هو اغتيال للسياسة, وفتح نافورة الدم وسلوك مسالك العنف والتوحش.
إن لحظة الاغتيال هي لحظة قطيعة وبتر, لحظة اللاعودة, لحظة الانغماس في مستنقع الجريمة والتوحش, لحظة تمثل ذروة العنف والإرهاب.
وثانياً: تتصادم جريمة الاغتيال السياسي مع منطق التاريخ, الذي يقرر أن التطور يتم وفق مسار موضوعي وبإرادة جماعية نزاعة للخير الإنساني. فتأتي جريمة الاغتيال لإعاقة هذا المسار الموضوعي, وتحاول تطويع حركة التاريخ لمسار إرادوي أناني فاشي.
الجهة التي تلجأ إلى الاغتيال السياسي تريد أن تكرس في الوعي العام أن مسار التاريخ ينحكم لقوة خفية شريرة, تعمل في الظلام وتهدف إلى تحقيق أهداف خفية غير معلنة بنزعة إرادوية أنانية. بينما الواقع والعلم يقرران أن التاريخ يتحرك وفق قوانين موضوعية عيانية ومشاهدة وبإرادة جماعية خيِّرة.
وثالثاً: جريمة الاغتيال السياسي هي بالضرورة مضادة للطبيعة الإنسانية الخيِّرة, ومتسقة مع الطبيعة العدوانية التي هي من طبائع الحيوان المفترس.
الإنسان كائن مدني بالطبع كما يقول ابن خلدون, لا يصح وجوده, ولا تستقيم أحواله إلا بالعيش مع غيره من بني جنسه. إن اجتماعية الإنسان هذه تفرضها ضرورة التعاون من أجل تحصيل الغذاء الذي به قوام وجوده. والتعاون يقتضي التسليم بضرورة التعايش والإقرار بحق الآخر في الوجود.
أما الحيوان فهو يتحرك وفق طبيعة غرائزية, ولهذا فالافتراس أو العدوان صفة أصيلة فيه, وغاية العدوان عند الحيوان هي الحصول على الغذاء وتأمين شروط البقاء, أي أن عدوانية الحيوان عدوانية مبررة لا تتصادم مع طبيعته الخاصة.
أما عدوانية البشر فغير مبررة على الاطلاق, إنها نزوع “سيكوباتي”, أي سلوك شاذ أو انحراف عن السلوك القويم, لا يهدف إلى تأمين شروط البقاء, بل تدفعه الرغبة الجامحة في السيطرة والانفراد والتسلط وإلغاء الآخر واجتثاثه.
(3)
جريمة الاغتيال السياسي هي نتيجة منطقية طبيعية لفكر متطرف, لأيديولوجيا دوغمائية تنضح بالكراهية والحقد والإقصاء. دوغما توحد بين الذات والعالم, فلا ترى العالم إلا من منظورها الخاص. وموقفها من الآخر موقف ارتيابي فكل آخر في هذا العالم هو عدو محتمل. أو وفق عبارة جان بول سارتر “لا تتصور الآخر المنافس لها إلا بما هو جحيم”.
ودعونا نفرّق بين مصطلح الأيديولوجيا ومصطلح الدوغما, فليست كل أيديولوجيا هي دوغما بالضرورة, كما يفهم الكثيرون.
فالأيديولوجيا في معناها ومبناها منظومة أو نسق من الأفكار والتصورات الفلسفية والأخلاقية والسياسية والدينية عن الوجود. وهي انعكاس لتكوين اقتصادي واجتماعي محدد. وتتمرأى الأيديولوجيا بصورتين اثنتين: وعي صادق ووعي مفارق, فالوعي الصادق هو وعي مطابق للواقع الموضوعي. والأيديولوجيا وفي هذه الحالة تكون أيديولوجيا علمية تغييرية مستقبلية. أما الوعي المفارق فهو وعي زائف, وعي مضاد للواقع ومجافي لطبائع الأمور, وبهذا تتسم الأيديولوجيا بالطابع المحافظ والرجعي.
والدوغما هي صورة فاقعة للأيديولوجيا الرجعية, قوامها نهج فكري متزمت ومنغلق على الذات, يقيم علاقة خصومة شديدة للنقاش والحوار والجدل والاختلاف. يدّعي بامتلاك الحقيقة المطلقة, ويزعم أنه على المحجة البيضاء, وكل ما عداه هرطقة وضلال وخيانة وكفر بواح!!
هذه اليقينية الوثوقية التي توحد بين الذات والعالم, هي الجذر الفلسفي والفكري للتعصب, ومدخل لكل فعل إرهابي.
جريمة الاغتيال السياسي هي صورة من صور الارهاب؛ لأنها تستهدف أول حق طبيعي للإنسان المتمثل بحق الحياة, وتصفيته وإلغائه من الوجود, وتقوم على الغدر والخيانة.
وهي الابنة الشرعية لسياسة الاجتثاث والاستئصال, ومنتج من منتجات ثقافة الكراهية والاستعداء والتعصب, ودافعها تصفية الآخر المختلف بناءً على الرأي أو الانتماء, وفرض الراي الواحد واللون الواحد والصيغة الأحادية.
وجريمة الاغتيال السياسي هي علامة انحطاط وإفلاس للجهة التي تلجأ إليها, لأنها تفضح عجزها على مقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي والفكرة بالفكرة, لذا تستدعي الجريمة لتصفية منافسيها.
تتوهم الجهة التي تلجأ إلى الاغتيال السياسي أن بجريمتها ستتمكن من إخراس الصوت الحر, وإيقاف عجلة التغيير, ولكن هيهات, فللتغيير قوة كامنة لا يمكن تعطيلها أو إيقافها.
(4)
ظاهرة الاغتيال السياسي ظاهرة عالمية الطابع, أي أنها منتشرة في كافة المجتمعات, بيد أنها تختلف من حيث الدرجة والنوع من مجتمع إلى آخر, كما تختلف أيضاً ردات الفعل إزاءها من بلد إلى آخر, فجريمة اغتيال واحدة يمكن أن تطيح بحكومات وأنظمة في بعض البلدان المتقدمة, لكن في عالمنا الثالث تمر هذه الجرائم ويفلت الجناة والمخططون, لا بل ربما يحظى هؤلاء الجناة بحماية وغطاء من لدن النظام السياسي وأجهزته الأمنية والقضائية, وفي هذه الحالة تصبح جريمة الاغتيال السياسي جريمة رسمية, أو إرهاب دولة.
ظاهرة الاغتيالات السياسية في اليمن معقدة يتداخل فيها العامل السياسي بالديني بالإيديولوجي بالاجتماعي بالثقافي…إلخ, وهي ظاهرة شائكة نظراً لتعدد الجهات والقوى التي مارست هذه الجريمة بين أجهزة استخباراتية وقوى دينية وحركات سياسية وأجنحة متصارعة ذات اليمين وذات اليسار.
كما تعددت الأساليب والأدوات المستخدمة في تنفيذ هذه الجريمة في تاريخنا السياسي المعاصر, فهناك اغتيال بالرصاص الحي (مثل: اغتيال محمد أحمد النعمان في يونيو 1974م, واغتيال إبراهيم الحمدي وشقيقه في 11 أكتوبر 1977م, واغتيال حسن الحريبي وماجد مرشد وما يزيد عن 150 قيادي من قيادات الحزب الاشتراكي خلال أعوام 1991- 1994م, وصولاً إلى اغتيال جار الله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني في 28 ديسمبر 2002م, واغتيال عبدالرقيب القرشي في يوليو 2010م وعبدالكريم جدبان وعبدالكريم الخيواني وأحمد شرف الدين وصادق منصور عام 2014م, والشاب أمجد عبدالرحمن الذي اغتيل في مايو 2017م, واغتيال عمر دوكم ورفيق الأكحلي في أبريل 2018م وعشرات من الدعاة المستنيرين والناشطين في عدن بين عامي 2017- 2018م, وانتهاءً باغتيال العميد عدنان الحمادي في ديسمبر 2019م), وهناك الاغتيال بالسم (كاغتيال المناضل الوطني عبدالقادر سعيد في مايو 1974م, والصحفي عبدالحبيب سالم مقبل في أكتوبر 1995م, واغتيال الصحفي محمد عبده العبسي في ديسمبر عام 2017م), وهناك اغتيال بالدهس والحوادث المرورية (أبرز مثالين على ذلك: اغتيال د. عبدالعزيز السقاف عام 1999م, واغتيال د. عبدالملك المتوكل في 2 نوفمبر 2014م) وهناك اغتيال عبر الطائرات المفخخة (مثل: تفجير طائرة الدبلوماسيين في 30 ابريل 1973م, والذي راح ضحيته العشرات من القيادات والكوادر الوطنية أبرزهم: الأديب اليمني محمد أحمد عبدالولي رائد القصة والرواية اليمنية, وتفجير الطائرة العسكرية عام 1997م وذهب ضحيته عدد من القادة العسكريين أبرزهم: العميد محمد إسماعيل والعميد أحمد فرج), وهناك أيضاً اغتيال من خلال الرمي من شاهق (كاغتيال الصحفي عبدالله سعد عام 1999م), وهناك أساليب أخرى جرت في صورة الإعدامات والمحاكمات الصورية التي راح ضحيتها خيرة الوطنيين الأفذاذ (من عبدالرقيب عبدالوهاب ومحمد مهيوب والوحش, إلى فيصل عبداللطيف الشعبي إلى سالمين وعبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر وشائع إلى عيسى محمد سيف وعبدالسلام مقبل …إلخ) وغيرها من الأساليب القذرة التي أدارتها وخططت لها أجهزة أمنية واستخباراتية محلية ودولية وأطراف نافذة ونفذتها عناصر أمنية أو متطرفة. وعلى الرغم من هذا الاختلاف في الدوافع والأساليب والأدوات والجهات, إلا أن القاسم المشترك الأعظم بين معظم هذه الجرائم أنها كانت تمر مرور الكرام, ويتم دفن الحقيقة بالتغطية على مخططيها ومنفذيها وبالتالي إفلاتهم من العدالة.
(5)
تاريخنا البعيد والقريب تاريخ صراع دامي, وإذا كان الصراع سمة الوجود ويشمل كل الظواهر وكل المجتمعات الإنسانية, فإن ما يُعاب عليه أن صراعاتنا لا تُدار أو تُحسم بطرق سلمية حضارية, بل بأدوات عنفية, حيث تتخلق معادلة المنتصر والمهزوم, يصبح المنتصر مهزوماً والمهزوم منتصراً وهكذا نستمر في الدوران في حلقة مفرغة؛ ذلك لأن بنية العنف بنية راسخة في مجتمعاتنا, تجد تمظهراتها في مختلف مناحي الحياة, في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والثقافة والفن والتعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية, وحتى في اللغة والخطاب الديني والسياسي والإعلامي وفي مختلف مناشط الحياة اليومية.
عنف شامل ومتجذر, يأخذ شكل عنقودي, يبدأ من السلطة وينتهي إلى العلاقات الاجتماعية والأسرية. فالسلطة تمارس عنفها ضد المجتمع من خلال أجهزتها السلطوية والأيديولوجية ومن خلال احتكارها للثروة وللقرار.
وتمارس النخب عنفها ضد الجماهير, والقبيلي يمارس عنفه ضد المهمش, والرجل يمارس عنفه ضد المرأة, والأم تمارس عنفها ضد الطفل, والكبير يمارس عنفه ضد الصغير, والصغير يمارس عنفه ضد الحيوان والكائنات غير الحية… إلخ.
والعنف متجذر أيضاً في عاداتنا وتقاليدنا, حتى في أزياءنا وملابسنا وطريقة تناولنا للطعام, فالسلاح الأبيض “الجنبية”, ورقصة البرع التي هي رقصة الحرب على سبيل المثال إنما هما صورتان من صور العنف الراسخ في مجتمعنا وثقافتنا.
يرى يورغن هابرماس أن العنف مرض من أمراض التخاطب والتواصل البشري؛ فالعنف هو نتيجة للخطاب المشوَّه السائد بين المتطرفين وغيرهم؛ خطاب مشَّوه لأنه لا يعترف بالآخر كما هو.
إنه خطاب إقصائي, إلغائي يستحل دماء المخالفين. والخطاب بما هو سلطة رمزية يؤدي دوراً سياسياً وظيفياً, فهو أحد الأدوات التي تمارس فيه القوة المسيطرة هوسها في التصفية والقهر والإقصاء. ويعتبر ميشيل فوكو أن الخطاب هو مسرح ملائم للسلطة تنمي من خلاله هيمنتها وتعزز سطوتها في إطار جملة من الآليات القائمة على الضبط والتحكم والمنع.
الخطاب الاقصائي, إذن, هو إرهاب فكري يترتب عليه سلوك عدواني, وخطابنا السياسي والإعلامي والديني خطاب عنف, يخاطب الغرائز أكثر مما يخاطب العقول, ويستثير النوازع البدائية في الفرد أكثر مما يحرضه على التفكير والنقاش, إنه خطاب يقوم على الشحن والضخ ويتوسل العداء ويساهم في إشاعة الكراهية.
ولا سبيل أمام هكذا بنية عنفية غير تفكيكها كأساس موضوعي لبناء سلام عادل ومستدام ومجتمع متعايش.
(6)
الاغتيال السياسي في اليمن مسلسل دامي استنزف ويستنزف الحركة الوطنية بشتى تياراتها السياسية وتوجهاتها الفكرية, وأغرق البلد في بركة من الدماء المسفوحة, وآن لهذا المسلسل الدامي أن يتوقف, ولن يتوقف ما لم يكن لنا صوت كشعب وكقوى سياسية ومدنية وناشطين, صوت مناهض لهذه الجريمة.
إن إيقاف مسلسل الاغتيال يقتضي مواجهة التطرف والعنف والارهاب وثقافة الكراهية وسياسة الإقصاء والإبعاد والتهميش, مواجهة شاملة من خلال بناء رؤية وطنية توافقية, تنبثق عنها سياسات وإجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية وإعلامية, وبمشاركة مختلف الأطراف المعنية.
رؤية تقوم على مبدأ أساس وحاكم وهو الإقرار بحق الاختلاف, باعتبار الاختلاف جذر الحرية (أبوبكر السقاف) وهو حياة في الزمن (مهدي عامل).
قبل ما يقرب من ثلاثة قرون, قال فيلسوف التنوير فولتير مقولته الخالدة: “قد اختلف معك في الرأي, نعم, ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمناً مقابل حقك في التعبير عن رأيك”.
إذن الاختلاف يقتضي التعدد والتنوع, والتعامل مع الآخر ككيان له هويته المستقلة لا كما نريده , نحن, أن يكون. هذه هي نقطة البدء في مواجهة التطرف والإرهاب والاغتيال السياسي.
على أن المسألة بحاجة إلى إجراءات أخرى مثل:
بلورة خطاب سياسي وطني يبشّر بقيم التعايش وبسائر القيم الديمقراطية.
إعادة صياغة الهوية الوطنية الجامعة, والتأكيد على وحدة المصير الوطني, لاسيما مع ظروف الحرب والتمزق والتهتك الاجتماعي السائدة في بلادنا حالياً.
إجراء إصلاح شامل في منظومة التعليم وغربلة المناهج التعليمية من علائق العنف وثقافة الكراهية والخرافة باتجاه تجذير العقلانية وإشاعة قيم المحبة والسلام والوئام.
العمل على تحقيق وطنية تنمية شاملة ومتكاملة ومستدامة وبمشاركة شعبية واسعة.
هوامش:
(*) ورقة عمل قدمت لندوة سياسية نظمها القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي اليمني ــ مدينة تعز , بتاريخ 1 فبراير 2020م.
انظر: المعجم الوجيز, ط/2004م: ص457.
د. عبدالوهاب الكيالي وآخرون, الموسوعة السياسية, ج1, المؤسسة العربية للدراسات والنشر, بيروت ــ لبنان, ص217.
الورقة الثانية :
الاغتيال السياسي وإعاقة بناء الدولة الحديثة في اليمن
د. ياسر حسن الصلوي
ورقة مقدمة إلى ندوة الاغتيالات السياسية في اليمن ودورها في إعاقة مشروع الدولة المدنية الحديثة التي نظمها القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي اليمني بجامعة تعز بتاريخ 1/ فبراير 2020م
الاغتيال السياسي ظاهرة تاريخية ترتبط بالمجتمعات البشرية، وهي مواكبة لنشؤ السلطة السياسية فأينما وجدت السلطة وجد الصراع وأينما وجد الصراع فهناك احتمال كبير لحدوث الاغتيالات السياسية بما تمثله من جريمة دموية ووحشية، والتي قد يغير بعضها مجرى التاريخ.
إن ظاهرة الاغتيالات تشمل كل المجتمعات تقريبا، وتظهر بصورة أقوى في أوقات الأزمات وأوقات عدم الاستقرار، وعملية التصفية الجسدية هي شكل من أشكال إزاحة الخصوم من المجال السياسي والحصول على المنصب، ومن ثم فالاغتيال يكون آلية من آليات التنافس أو الصراع الذي تستعمل فيه كل الوسائل للوصول إلى الهدف السياسي والمتمثل بالزعامة أو الرئاسة أو احتكار السلطة.
في معنى الاغتيال السياسي:
مصطلح الاغتيال بصورة عامة يستعمل لوصف فعل يستهدف بالقتل شخصية مهمة ذات تأثير سياسي أو قيادي أو عسكري أو ديني أو فكري…إلخ، أما الاغتيال السياسي فهو القيام بعمل اجرامي يصل في مستواه إلى حد الموت في إطار هدف ومضمون سياسي، كما يعد نوعا من أنواع الجرائم السياسية ضد أفراد أو جماعات على حد سواء.
وبصورة عامة لا يوجد اجماع على استعمال مصطلح الاغتيال، فالذي يعتبره المتعاطفون مع ضحية عملية اغتيال، قد تعتبره الجهة المنظمة للاغتيال عملا بطوليا، ومما يزيد من صعوبة محاولة وضع تعريف دقيق لفعل وعملية الاغتيال هو أن بعض عمليات الاغتيال قد يكون أسبابها ودوافعها اضطرابات للشخص القائم بمحاولة الاغتيال وليس سببا عقائديا أو سياسيا.
الاغتيال السياسي أيضا هو وليد العنف السياسي في المجتمع، وعادة ما ينتشر في البلدان التي تمر بمرحلة انتقال، كما تزداد الاغتيالات السياسية عندما تعم الفوضى في دولة ما أو مجتمع من المجتمعات كحالات الانقلاب أو الثورة أو غياب السلطة وانتشار الاستبداد والديكتاتورية.
الاغتيالات السياسية في اليمن:
الاغتيال السياسي ومصادرة حق الحياة ظاهرة خطيرة ومتفشية في البلاد العربية ومنها اليمن، وقد أخذت بالتوسع والانتشار منذ العام 2011م وما تلا ذلك من أحداث سياسية تمثل أبرزها في الانقلاب على السلطة الشرعية في 21/9/2014م من قبل تحالف الحوثيين والرئيس السابق علي صالح، ودخول البلاد في حرب أهلية منذ مارس 2015م لا تزال مستمرة حتى الوقت الراهن.
على الرغم من زيادة انتشار ظاهر الاغتيال السياسي في اليمن في السنوات الأخيرة حيث اتسع نطاقها لتشمل العديد من الفئات في المجتمع مثل: السياسيين والعسكريين ورجال القضاء والشرطة والفنانين والنشطاء،…إلخ كانوا قد اتخذوا مواقف لا تنسجم مع طروحات الجماعات المتصارعة، إلا أن هذه الظاهرة قد لازمت ممارسة السياسة وتولي السلطة منذ نشؤ الدولة الحديثة في اليمن.
إن تناول ظاهرة الاغتيالات السياسية في اليمن أمر تكتنفه صعوبات عديدة تتعلق جلها بعدم توافر بيانات ومعلومات دقيقة يمكن الركون إليها حول معظم جرائم الاغتيالات السياسية التي حدثت خلال أكثر من خمسة عقود ماضية، ناهيك عن عدم توافر دراسات متخصصة تناولت هذه الظاهرة في الحقل السياسي اليمني، ولذا فالحديث عن هذه الظاهرة في اليمن سيقتصر على محاولة إعطاء صورة عامة عنها دون الوقوف على الأشخاص الذين طالتهم جرائم الاغتيالات السياسية والتفصيلات المتعلقة بها.
هنا يمكن القول: أن الاغتيالات التي شهدتها اليمن وتزايدت وتيرتها منذ العام 2011م وحتى الوقت الراهن لسيت سياسة طارئة ولا معالجة أمنية مؤقته ولا أسلوب مرحلي عابر، بل استراتيجية ثابتة لدى القوى والنخب التي استملكت السلطة أو تسعى إلى استملاكها، إذ ظلت ترى في إرهاب وقتل الخصوم(الفردي والجماعي) وسيلة ناجعة للتخلص ممن تعتبرهم الأعداء والخصوم حسب ما تتطلبه المصلحة والحاجة الأمنية والسياسية وحتى الفكرية.
لقد ظل فعل الاغتيال السياسي حاضر بقوة في المشهد السياسي والتاريخ اليمني الحديث منه والمعاصر، واستخدم بوصفه آلية من آليات التنافس أو الصراع الذي تستعمل فيه كل الوسائل للوصول إلى الهدف السياسي المتمثل بالزعامة أو الرئاسة أو الحصول على السلطة أو احتكارها.
فمنذ الإطاحة بالنظام الإمامي السابق في الشمال عام 1962م وطرد الاستعمار البريطاني من الجنوب عام 1967م وحتى تحقيق الوحدة اليمنية بين الشطرين في العام 1990م شهد اليمن سلسلة طويلة من الاغتيالات السياسية، نجم عنها تصفية قيادات تاريخية كبيرة ووازنة شكل تغييبها عن الساحة الوطنية خسارة فادحة للمشروع الوطني في بلد ظلت تعصف به الصراعات السياسية، ومثلت الاغتيالات السياسية أبرز ملامح السياسات التي اتبعتها النخب الحاكمة بغرض ازاحة كل قوة متمثلة في توجهٍ أو تيارٍ أو شخصية تمثل خطا معارضا للنظام الحاكم أو النخبة المسيطرة على الحكم، كما عُد نهج تصفية الحسابات مع الخصوم عبر اللجوء إلى الاغتيال سلوكا عاما للنخب الحاكمة والسلطات السياسية ظلت تنتهجه عبر أجهزتها وأذرعها العسكرية والأمنية ضدا على الشخصيات السياسية والعسكرية والاجتماعية والفكرية المؤثرة ، باعتبار النشاط الذي تمارسه هذه الشخصيات يمثل خطرا وجوديا على هذه النخب ورموزها ومصالحا.
بعد تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990م والذي كان يفترض -من الناحية النظرية – الانتقال إلى مرحلة مغايرة في تسوية الخلافات السياسية والتعامل مع الخصوم السياسيين عن تلك التي سادت في المرحلة الشطرية لا سيما وأن الانتقال إلى التوحيد السياسي كان قد أقترن بالانتقال إلى التعددية السياسية والأخذ بالديمقراطية كنظام للحكم وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، بيد أن الاغتيالات السياسية كآلية لحسم الصراع والاختلاف والتنافس السياسي استمر وجودها، حيث بدأت باستهداف شخصيات سياسية بارزة مطلع العام 1992م تمثلت في محاولة اغتيال الشخصية الوطنية عمر الجاوي رئيس حزب التجمع الوحدوي اليمني، وأسفرت عن اغتيال الدكتور حسن الحريبي الذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس الحزب، تلتها سلســلة اغتيــالات اســتهدفت قيـادات بارزة فـي الحـزب الاشـتراكي راح ضحيتها العشرات من أبرز قيادات الحزب وكوادره خلال الفترة الممتدة حتى العام 1994، وقد مثل الاغتيال السياسي أحد أبرز الوسائل التي استخدمتها النخبة الحاكمة والقوى المتحالفة معها لإزاحة الحرب الاشتراكي اليمني – الشريك الأساسي الحقيقي في تحقيق الوحدة- من السلطة والتفرد بها.
عقب حرب صيـف 1994 وتفرد النخب الحاكمة بالسلطة ممثلة بالمؤتمر الشعبي العام وحليفه في الحرب التجمع اليمني للإصلاح لم تتوقف الاغتيالات، فقـد شهدت البلاد بيـن حيـن وآخـر حـوادث وفـاة متفرقـة لشـخصيات سياسـية وعسـكرية يغلـب الظـن عليها أن تكـون عمليـات اغتيـال مدبـرة، لكنهـا لم تلق حقهـا مـن التحقيـق الجنائـي والبحـث والكشف عن مرتكبيها، بيد أن الاغتيال الأكثر علانية وتبجحاً في جرائم الاغتيالات السياسية في اليمن تمثل في اغتيال الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي جار الله عمر الذي اغتيل في ديسمبر 2002م عقب انتهاءه من إلقاء كلمة الحزب الاشتراكي اليمني في المؤتمر الثالث للتجمع اليمني للإصلاح، أمام حوالي 2000 مندوب حزبي وأبرز الرموز السياسيين اليمنيين الحاضرين في هذا المؤتمر، لقد هدف اغتيال القيادي البارز جار الله عمر إلى إزاحة خصم رأت فيه النخبة الحاكمة أنه يسير بالقوى السياسيّة في اليمن نحو إنجاز تحالفات جديدة خارج الاصطفاف القديمة، الأمر الذي كان يهدد استقرار تحالف السلطة المريح الذي كان قد تشكل منذ صيف 1994م .(1)
خلال الفتـرة الممتـدة مـن العـام 2003وحتـى العام2019م شهدت البلاد العديد من جرائم الاغتيالات والتي تزايد وتيرتها وبخاصة منذ ثورة الشباب في 11 فبرير 2011م، كما ارتفع منسوبها بعد انقلاب جماعـة الحوثـي وحليفها الرئيس السابق على عبدالله صالح على الســلطة الشــرعية فــي البــلاد في 21/9/2014م وما اعقبها من دخول البلاد حرب أهلية في مارس 2015، (وثقت بعض التقارير الصادر عن بعض المنظمات التي تُعنى بحقوق الإنسان المئات من جرائم الاغتيال(451) جريمة اغتيال شهدتها البلاد خلال الفترة 2014-2019م بحسب التقرير الصادر عن منظمة رايس رادار بعنوان: اليمن اغتيال الحق في الحياة)(2)
يشير هذا العدد الكبير من جرائم الاغتيالات في اليمن والتي كان آخرها اغتيال القائد العسكري الوطني عدنان الحمادي في 2 ديسمبر 2019م إلى استمرار نهج استخدام القتل خارج إطار القانون كأداة لتصفية الخلافات السياسية بين الجماعات المتصارعة في البلاد، كما يعبر في الآن نفسه عن اقصى درجات التوتر وعدم الاستقرار التي يمر بها المجتمع اليمني منذ عقود وهو ما يدفع الأطراف المتصارعة إلى استخدام الاغتيال كوسيلة لتصفية الحسابات فيما بينها.
أسباب الاغتيالات السياسية في اليمن ودوافعها:
تتوزع أسباب الاغتيالات السياسية في اليمن ودوافعها ما بين أسباب سياسية وعقائدية ودينية، وأيدلوجية وفكرية واقتصادية وشخصية، وتعد الأسباب والدوافع السياسية أقوى هذه الدوافع للقيام بعمليات الاغتيال التي طالت القيادات السياسية العليا في الدولة والقيادات الحزبية، ورموز المعارضة النشطة التي تشكل خطرا على النخب الحاكمة واستملاكها للسلطة والثروة، علاوة على الدوافع الايديولوجية والدينية والمتمثلة بالتشدد الديني والتطرف والتي أدت إلى اغتيال العديد من القيادات والشخصيات الفكرية، في ظل تعبئة دينية متطرفة مسكوت عنها، ظلت تبيح القتل وتقر الاغتيال وتصفية المختلف معه، وتتغذى من أطر وثقافة متشددة يتم رعايتها وتوظيفها في كثير من الأحيان من قبل السلطات الرسمية.
كما تمثل الأسباب والدوافع الاجتماعية والثقافية: متمثلة بالدين والطائفية والمذهبية والقبيلة والجهوية/ المناطقية عناصر أولية لم يجرِ تحييدها سياسيًا، وهي تمثّل مواردَ غنية لإنتاج العنف السياسي في المجتمع اليمني، فالشحنة السياسية التي تحملها هذه البنى لا تزال حاضرة وبقوة في الواقع السياسي والاجتماعي اليمني بل أن قوتها تزداد في حالة الأزمات السياسية الاقتصادية التي تعصف بالبلاد، كما انها تشكل موردًا كامنًا بين أيدي الجماعات الاجتماعية الأكثر أصولية في المجتمع، لاسيما وأن الاغتيالات هي أيضا ظاهرة متأصلة في المجتمع العربي والاسلامي وتشكل جزءً من الثقافة العربية والاسلامية.
أهداف الاغتيالات السياسية في اليمن:
اسُتخدمت الاغتيالات التي شهدتها اليمن قبل وبعد الوحدة اليمنية وحتى الوقت الراهن لتحقيق أغراض عديدة تنوعت بحسب طبيعة المرحلة التي نفذ فيها الاغتيال، والشخصية المستهدفة وموقعها ومكانتها السياسية والحزبية والاجتماعية والثقافية وبصورة عامة يمكن الإشارة إلى أهم هذه الأغراض في الآتي:
مثلت أداة مهمة وناجحة من قبل القائمين على السلطة للمحافظة على النظام بقائه.
بث الخوف والرعب في نفوس الخصوم السياسيين بغرض ارهابهم وردع القوى التي تفكر في مهاجمة النظام والنخبة الحاكمة أو تهدد بقائها أو استمرار مصالح رموزها.
أداة لمعاقبة القيادات في التنظيمات السياسية والحزبية، أو التأثير على بنيتها وقدرتها التنظيمية بإحداث فراغ في رأس هرمها القيادي وضرب أطرها القيادية.
تصفية العقول المهمة والشخصيات القيادية والنخب الكاريزمية( اغتيال الازاحة) والذي يؤدي إلى التأثير التنظيمي للقوى المعارضة.
محاولة النخب الحاكمة ورموز السلطة خلط الأوراق والتهرب من أي استحقاق سياسي، أو الهروب من حالة افتقاد الأفق السياسي.
خلق حالة من الخوف للنظام والمجتمع برمته من خلال تنفيذ الاغتيالات المتكررة للعديد من الشخصيات من قبل الجماعات الإرهابية( القاعدة، داعش،…إلخ).
استعمل كأداة سياسية في عملية صراع المصالح والحصول على مكتسبات من السلطة بممارسة الضغوط عليها واقلاق استقرارها.
تشويه الخصوم أحياء وأموت، عبر اعداد مسرح جريمة يزيف ويشوه الرصيد النضالي لهم أمام محبيهم وأقاربهم والأجيال المتعاقبة.
ارسال رسائل للشرفاء والأحرار أن لا مكان لهم إلا في القبور أو السجون، أو خارج البلاد.
ارباك الانتقال الديمقراطي واجهاض التجربة الديمقراطية في اليمن التي كانت قد شهدتها البلاد مطلع تسعينيات القرن الماضي والتفرد بالسلطة من قبل النخبة الحاكمة .
محاولة التأثير على المشروع الوطني بضرب رموزه السياسية والفكرية والعسكرية والتأثير عليه نفسيا واجتماعيا وأمنيا.
5-الفئات المستهدفة بالاغتيالات السياسية:
الاغتيال بالأساس يستهدف الشخصيات المؤثرة في الطرف الآخر التي تتمتع بالكاريزما، والتي حولها “إجماع وطني” والشخصيات ذات الثقل الأيديولوجي، التنظيمي، العسكري، الأمني والفكري والسياسي.
وبصورة عامة وبالوقوف على معظم عمليات الاغتيالات التي حدثت في اليمن منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى الوقت الراهن يتبين أنها شملت العديد من الفئات تمثل أبرزها في القيادات العليا والرمز الوطنية (الرؤساء، ونوابهم، ورؤساء الحكومات، والوزراء، أعضاء برلمان)، القيادات العسكرية والأمنية والاستخبارات( أمن وطني، سياسي، قومي)، السياسيين والقيادات الحزبية والنقابية والعقول المفكرة وبخاصة رموز الحداثة السياسية والمشايخ القبليين والأعيان والوجهات الاجتماعية ورجال المال والأعمال والكوادر والقيادات النوعية والإدارية في أجهزة الدولة ومؤسساتها والأكاديميين وأستاذة الجامعات والصحفيين، والناشطين السياسيين والحقوقيين، خطباء وائمة المساجد.
6-الجهات المنفذة للاغتيالات:
يقف وراء الاغتيالات السياسية في اليمن جهات عديدة ( شخص واحد أو جماعة أو تنظيم، )، علاوة على دول وحكومات خارجية نفذت أو شاركت وساعدت على تنفيذ بعض جرائم الاغتيالات السياسية التي شهدتها البلاد عبر أجهزتها الاستخباراتية والأدوات المحلية، وتتمثل أبرز هذه الجهات بصورة عامة في أجهزة الأمن والاستخبارات التابعة للدولة عبر استخدامها لأفراد غالبيتهم لا يزاولون أي نشاط فعلي ومحسوبين على الجيش والأمن ويمتهنون جريمة الاغتيالات ، وقوى التطرف والتعصب الديني والفكر التكفيري والجماعات الأصولية المتعصّبة( جماعات الإسلام السياسي المعاصرة: سلفيين، جهاديين، وأصوليين، وحوثيين)، والجماعات المتطرفة كالقاعدة وانصار الشريعة وداعش والتي يمكن اختراقها من قبل الأجهزة الأمنية الجماعات، وأجهزة الاستخبارات التابعة للدولة الخارجية.
6-الاغتيالات السياسية ودورها في إعاقة مشروع الدولة اليمنية الحديثة:
منذ مطلع القرن الماضي واليمنيون يناضلون من أجل بناء دولة حديثة، دولة يتساوى فيها المواطنون جميعا، وقد تأرجح مسار بناء الدولة الحديثة وبخاصة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الوقت الراهن ففي الوقت الذي كان المجتمع أو قطاع كبير منه وبخاصة نخبه المدنية يتطلع إلى تحقيق هذا الهدف، كانت النخب الحاكمة والسياسية تعمل على إعاقة هذا البناء بفعل السياسية الشطرية حينا وممارسة السياسة وإدارة شؤون الدولة والمجتمع وفق محددات تقليدية عصبوية حينا آخر وبفعل محددات خارجية اقليمية ودولية لا ترغب لليمنيين في بناء دولتهم الحديثة(2) وقد تضافرت هذه العوامل والمحددات فيما بينها لتعمل على إعاقة بناء الدولة الحديثة.
وبصورة عامة مرت عملية بناء الدولة الحديثة في اليمن بثلاث مراحل، المرحلة الأولى: ظهرت في الخمسينات حيث شكلت امتدا لخطاب الحركة الوطنية حول الدولة الحديثة وأهميتها في واقع اجتماعي كاليمن والذي كان يعيش أوضاعا اجتماعية واقتصادية وسياسية غاية في التخلف وعزلة دولية عن العالم الخارجي.
أما المرحلة الثانية فبدأت في ستينيات القرن الماضي اعقاب نجاح الثورة اليمنية في شطري اليمن وانجاز الاستقلال وتميزت هذه الفترة بوجود نظاميين سياسيين اختلافا في توجههما السياسي والايديولوجي وفي تجربتهم في بناء الدولة، وقد مثلت هذه المرحلة البداية الحقيقية لبناء الوطنية في اليمن والولوج إلى مرحلة الحداثة، بيد أن القوى المتحالفة والمضادة للثورة في الشمال كانت قد أجهزت في السنوات الأولى للثورة في على حوامل الثورة من القوى التقدمية والقومية والمستنيرة والحداثية، وقد مثلت الاغتيالات السياسية إحدى أهم الأدوات التي جرى استخدامها للقضاء على رموز هذه القوى( أحداث اغسطس1968 الدموية) كما تمكنت القوى المضادة للثورة لاحقا بالتعاون مع الخارج الإقليمي والدولي من افراغ الثورة من مضمونها في تقديمتها ومن مشروعها السياسي والاكتفاء بصورة شكلية لجمهورية يديرها اليمين الجمهوري بدأ ذلك بانقلاب5 نوفمبر 1967 والمصالحة مع الملكيين 1970، مرورا باغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي عام 1977 ومشروعة الوطني في بناء دولة حديثة، وانتهاء بتسلم القوى التقليدية للسلطة في اطار تحالفها مع العسكر والجماعات الدينية والبرجوازية الطفيلية، حيث برز ملامح ذلك التحالف بصورة جلية مع الرئيس السابق علي صالح منذ العام 1978 واستمر حتى العام 2010م.
في الجنوب الذي كانت قد بدأت تظهر فيه ملامح بناء دولة وطنية حديثة أدت أزمات الثقة بين مكونات النظام الحاكم على خلفيات ما قبل وطنية (جهوية/ مناطقية) إلى تفجر الصراعات المتعددة حول السلطة، الأمر الذي أضعف ذلك البناء السياسي ومشروعيته في أوساط المجتمع، وكانت النتيجة في كلا الشطرين هي الاجهاز على فكرة بناء الدولة الحديثة وإعاقة بنائها.
المرحلة الثالثة ظهرت مع بداية حقبة التسعينيات من القرن الماضي وتوحيد الشطرين في دولة واحدة وحتى العام 2011، ولما كانت الوحدة اليمنية في العام 1990 قد مثلت فرصة مواتية لإعادة بناء الدولة الحديثة على أسس مغايرة وسليمة لما كان سائدا في المرحلة الشطرية، لاسيما وأن الانتقال إلى الوحدة كان قد اقترن بالانتقال إلى الديمقراطية والأخذ بها كآلية للحكم وممارسة السلطة في الدولة الجديدة، بيد أن النخبة الحاكمة ذاتها الطامعة باستملاك السلطة والثروة لم تكن عند مستوى الحدث التاريخي وأهميته بالنسبة لليمنيين، فعملت على اعاقة الانتقال السياسي وبناء الدولة الحديثة في اليمن من خلال وضعها عقبات تم اصطناعها في قبل هذه النحبة والقوى المتحالفة معها والدائرة في فلكها والتي لم تكن ترغب بطبيعتها في بناء دولة مدنية حديثة، لأن واقعها السائد هو من يمنحها استملاك السلطة والثروة وفق رهانات مفارقة للمشروع الوطني الحداثي ولمنطق الدولة وآلياتها المؤسسية والقانونية وقد مثلت الاغتيالات السياسية أيضا احدى أهم الأدوات التي جرى استعمالها لإزاحة الرموز السياسية والوطنية وإعاقة المشروع الوطني في بناء الدولة الحديثة.
7- هل بالإمكان توقف مسلسل الاغتيالات في اليمن ؟
يكشف واقع المجتمع اليمني أن الاغتيالات التي شهدتها البلاد خلال ما يزيد عن خمسة عقود وحتى الوقت الراهن قد أسهمت في تعميق الخلاف بين القوى السياسية والمجتمعية، وهو ما أدى إلى انتشار دورة العنف التي شهدتها البلاد ودفع بها في أحيان كثيرة إلى حافة الهاوية، كما كانت أحد الأسباب في تعطيل بناء الدولة الحديثة. والسؤال الذي يمكن أن يطرح في الوقت الراهن هو هل هناك إمكانية لتوقف الاغتيالات في اليمن؟
الإجابة على هذا التساؤل لا تدعوا إلى التفاؤل- على الأقل في الوقت الراهن- حيث يتوقع أن يستمر مسلسل الاغتيالات طالما ظلت الحرب الحالية والصراع السياسي قائما ولم يتم تسويته وإدارته بوسائل مدنية وديمقراطية، كما أن فعل الاغتيال لن يتوقف طالما ظلت قوى التكفير والتطرف لا تتردد عن استخدمه للوصول إلى غاياتها مستخدمة في ذلك الدين وتوظيفه لأغراضها السياسية الأنانية الضيّقة والتي تتعارض مع سياق تطوّر المجتمع، بل ومع سمة العصر والتقدم الحاصل على المستوى العالمي.
إن تحقيق التعايش السلمي داخل أي مجتمع من المجتمعات- بما في ذلك المجتمع اليمني- ينبني على أساس الاعتراف والاحترام المتبادل، وحفظ الحقوق السياسية والمدنية للجميع، ونبذ المشاحنات والمهاترات المذهبية والطائفية والأيديولوجية، ولعلّ أحد أهم متطلبات تأسيس دولة حديثة في مرحلة ما بعد الحروب الأهلية هو تجاوز أسباب الصراع والتفرقة، وبناء مساحة من التعاون على أسس من التسامح السياسي الحقيقي بين جميع الأطراف، فالتسامح هو البوابة الرئيسية التي لا بد من المرور عبرها لبناء مجتمع يتوافر فيه السلم والأمان.
فالاغتيال أيا كان شكلة (سياسي، ديني، معنوي، اقتصادي، ثقافي…إلخ) لا يمكن أن يكون هو الحل للقضايا الخلافية أو الفيصل بين المتخاصمين على الإطلاق، والحل يكمن فقط في تطبيق ثقافة الحوار والبحث عن النقاط المشتركة بين المختلفين فكرياً أو عقائدياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً بدلاً من البحث عن الصدام والصراع واللجوء إلى العنف والاغتيال للتخلص من الخصوم، وهذا العمل لا يقتصر في معناه وتطبيقه على الأفراد بل يشمل الجميع بما فيهم الدولة والكيانات الحزبية والتنظيمات الأهلية بمختلف توجهاتها وتسمياتها.
إن اغتيال الخصوم السياسيين والمعارضين في اليمن أو أي بلد آخر لا يحل مشكلة ولا يحقق لمن قاموا ويقوموا به غرضهم منه، بل إن مثل هذه الأعمال تخلف المزيد من المشاكل للجهات القائمة والمدبرة له، وتدفع البلاد إلى مزيد من التوتر والاضطراب والفوضى.
وبناء على ما تقدم نعتقد أن الجميع تقع عليه مسؤولية محاربة هذا الفكر والسلوك والممارسة المتطرفة الذي يقوم على إلغاء الآخر وحرمانه من حق التفكير والعمل بما يعتقد، وحرمانه من حق الحياة، ولن يتأتى ذلك إلا باعتماد الحوار كوسيلة أساسية يمكن الركون اليها في حل جميع الخلافات والخصومات، ومحاربة مسببات اللجوء الى الاغتيال، ومنها التخلف والجهل والتعصب والتطرف وغيرها من المغذيات للعنف، وتفعيل دور منظمات المجتمع المدني في نشر ثقافة السلام والحوار ومكافحة الاغتيال بكل اشكاله من خلال تعريف المجتمع بمخاطرة وما يؤدي اليه من انهيار للقيم الأخلاقية والإنسانية في المجتمع ، وتشريع قوانين صارمة بغرض التصدي لهذه العمليات التي من شأنها الإضرار بالمجتمع وقتل الابداع وحرية التفكير لدى أفراده، وإبعاد الخصومات السياسية للأحزاب أو الحركات أو الجماعات وأصحاب القرار السياسي عن اللجوء الى أساليب العنف والاغتيال في تصفية من يعارضهم أو يخالفهم في التوجه وتوفير حماية قانونية ومعنوية للنشطاء والمفكرين والأدباء والمثقفين وغيرهم حتى لا يكونوا أهداف سهلة للمتنفذين والمتطرفين للتخلص منهم والافلات من العقاب.
وقبل كل هذا وبعده نحن في أمس الحاجة إلى تربية حقيقية ترى في الحوار بين الرأي والرأي الآخر هو المبدأ المقدس الذي يجب الا يتجاوز عليه أحد، وهي مهمة شاقة وعسيرة تحتاج إلى جهود كبيرة من كل من له علاقة وصلة بهذه المهمة ابتداء بالأسرة ، مرورا بتنظيمات المجتمع المختلفة وانتهاء بالدولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجد المذحجي، عن الاغتيالات في اليمن، السفير العربي، بتاريخ 27/1/2020م http://assafirarabi.com/ar/5797/2017/01/28/%
اليمن : اغتيال الحق في الحياة: تقرير حقوقي عن الاغتيالات السياسية ، ايلول /سبتمبر2019م.
فؤاد الصلاحي، الموجهات العامة لتحديد الاطار، صحيفة الثورة، بتاريخ 21 مايو 2012م ص14.
الورقة الثالثة :
الإغتيال السياسي من منظور تاريخي وقانوني.
فهمي محمد
توطئة سياسية وقانونية في مفهوم الجريمة السياسية .
الحديث عن جريمة الإغتيال السياسي لا يعني سوى الحديث في إحدى مظاهر الجريمة السياسية التي يعرفها الفقيه (دالوز) بأنها : الجريمة التي تُقترف وتكون السياسه هي الغرض أو الدافع إليها.
وقد تطورت هذه الجريمة بشكل عام عبر المراحل التاريخية والحقب الزمنية وعلى وجه التحديد على المستوى السياسي والقانوني، فعلى المستوى السياسي أرتبط ما يعرف بمصطلح الجريمة السياسية وحتى إمكانية تداولة مثل هذا المصطلح في توصيف فعل القتل المتعمد للإنسان ( خارج نطاق القانون ) مرتبط بفكرة ظهور السياسية وعلى إثر قيام السلطة العامة في المجتمع، أما على المستوى القانوني فقد تم إخراج هذه الجريمة من نطاق القانون الخاص التي تخضع لأحكامه مجمل الجرائم العاديه وحتى الجريمة الإجتماعية، إلى نطاق القانون العام نظراً لخصوصية الأسباب والدوافع الكامنة وراء فعل الإقدام على مثل هذا النوع من الجرائم السياسية التي دائماً ما تصل عقوبتها إلى حد الإعدام، حتى في الدول الديمقراطية، ففي روما القديمة كان عقاب المجرم السياسي هو الموت بحرمانه من الماء ثم إحراقه بالنار، وذلك بعد مصادرة كل ما يمتلك من أموال، وقد كانت مثل هذه المبالغة في العقوبات تحدث في الماضي وفي الحاضر تحت مبرر حماية نظام الحكم وأمن المجتمع وإستقراره، لكن المفارقة تبدو أكثر كارثية وخطراً على أمن المجتمع وإستقراره عندما تقدم الدولة نفسها أو النظام الحاكم فيها أو حتى النافذين داخل أجهزتها على ممارسة الجريمة السياسية وعلى وجه التحديد جريمة الإغتيال السياسي – في حق الخصوم أو المعارضين السياسيين – التي كانت وماتزال فن من فنون السلطة والحكم في اليمن .
الإغتيال السياسي من منظور تاريخي
إذا ما انطلقنا في حديثنا عن ظاهرة الإغتيال السياسي من المنظور التاريخي الذي يشكل العنوان الرئيسي لهذه الورقه، فإننا سوف نكتشف من خلال البحث أن التاريخ بشكل عام يحدثنا عن وقوع أو جريمة قتل حدثت للإنسان في الأرض حين اقدم قابيل على قتل أخيه هابيل، لكن هذه الجريمة التي تشكل تاريخياً، أول جريمة قتل للإنسان خارج نطاق القانون، لم تكن قد تمت بدوافع سياسية، كما أن السياسية نفسها لم تكن قد أصبحت فكره عامه وممارسة ناجعه تعبر عن حاجه إجتماعية، فالإنسان كان يومها مايزال يعيش في مرحلة الفردانية، ولم يكن قد عرف الخضوع لسلطة عامه، أو لسلطة الدولة، لكن صيرورة التاريخ وتحولاته مع وجود هذا الإنسان وتطوره تجعلنا بلا شك قادرين على تحليل ظاهرة الإغتيال السياسي ومتى بدأ هذا المخلوق على وجه التحديد يتعاطى معها ويفكر بها، بمعني آخر ظهرت جريمة الإغتيال السياسي في المرحلة التاريخية التي تحول فيها وجود الأفراد إلى جماعة متجانسة ( مجتمع إنساني ) أصبحت تعي ذاتها ووجودها الجمعي- المستقر والمتجانس – بحيث بدأت هذه الجماعة محتاجه لوجود سلطة عامه تحمي وجودها ، من منظور سياسي يعتمد في المقام الأول على الولاء السياسي المطلق للحاكم في هذا المجتمع أو ذاك ، أو بمعنى أدق نستطيع القول أن صيرورة التطورات التاريخية على مستوى الاجتماع والسياسة على حد سوى قد جعلت من مسألة وجود الولاء السياسي لدى الإنسان من عدمه أول الأسباب الموضوعية التي أستدعت التفكير في ممارسة جريمة الإغتيال السياسي والتصفية الجسدية للخصوم السياسيين والمعارضين على وجه التحديد .
الإغتيال السياسي في تجربتنا التاريخية
في نطاق تجربتنا التاريخية = { تجربة الدولة العربية والإسلامية } تذكر بعض المصادر على أن اول ضحيه لفعل الإغتيال السياسي كان هو الصحابي سعد ابن عباد الأنصاري، الذي رفض أن يبايع الخليفة أبو بكر ثم عمر من بعده، وقد قتل ومات دون أن يبايع أحد من الخلفاء في حياته، بعد أن كان الأنصار قد نصبوه خلفيه عليهم في إجتماع السقيفة الذي انعقد بين الأنصار قبل أن يوارى الثرى جثمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قيل في مقتله أن الجن قتلت سعد لأنه تبول قائماً، في منطقة من بلاد الشام التي هاجر إليها بعد أن قال للخليفة الراشد عمر ابن الخطاب أثناء ولايته – والله لقد كرهت المقام في جوارك – فقال له الخلفية عمر من يكره المقام في جوارنا يهاجر عنا فارض الله واسعه ، فهاجر صاحبنا المغدور به إلى بلاد الشام وقتل فيها، فالرجل يومها كان هو الشخص الوحيد من بين المهاجرين والأنصار الذي اتخذ موقف سياسي يتمثل في رفضه المطلق لمسألة أن تكون الخلافة في قريش .
وبعد أن تم الإنقلاب على مبدأ الشورى وعلى الفكرة السياسية نفسها، وتحول نظام الخلافة إلى ملك عضوض يمارس داخل محيطه الاجتماعي فعل الاستقطاب السياسي من منظور الولاء المطلق لشخص الحاكم ، مقابل المنح والمكافئة بالوظيفة والمال العام ناهيك عن إستقطاع الأرض والقرض من بيت المال، وأكثر من ذلك تم توظيف الفكرة الدينية، في تبرير هذا الإنقلاب السياسي والأخلاقي الشامل، كل ذلك قد أدى وخلق في المقابل نخب أتخذت دون خوف موقف سياسي وفكري من هذا الإنحراف المبكر في المسار السياسي لدولة المسلمين حديثة التكوين!
وفي ظل هذا الإشتباك السياسي الذي أستدعى فيما بعد إشتباكات فكرية متعددة ، بدت الحاجه لفعل الإغتيال السياسي أكثر إلحاحاً وتطوراً في الوسائل والأدوات، ولعلى فلسفة الحليفان = { معاوية وعمرو بن العاص } التي عُرفت تاريخياً تحت مقولة – إن لله جنود من عسل – كانت بلاشك تعبر عن تطور تاريخي وحتى تقني في الأدوات المستخدمة في تنفيذ جريمة الإغتيال السياسي للخصوم السياسيين “المعول عليهم شعبياً” عن طريق دس السم في العسل، وقد كان أبرز من ذهبوا ضحية لهذه التطور في مسار الجريمة السياسية ={ الإغتيال السياسي } هو الحسن ابن على الذي مات مسموماً على يد زوجته، وأخرين تتحدث عنهم المصادر التاريخية، ما يعني في النتيجة أنه منذ سقوط الحسن في القرن الأولى الهجري وحتى سقوط فتحي العبسي في القرن الرابع عشر الهجري سوف يعجز الباحثين عن حصر من تم إغتيالهم بالسم الزعاف تحت مقولة “إن لله جنود من عسل” .
بعد أن تم إغلاق باب الفعل السياسي بإحكام على إثر الإنقلاب الأول الذي حدث بعد نصف قرن من تكوين السلطة والدولة وبشكل أدى إلى مصادرة فكرة السياسة التي تقلص فعلها ومجالها العام لصالح التضخم الكبير في مجال الدين وحركته، بدت السياسية في هكذا حال تستعيد ممارسة فعلها المصادر بشكل متخفي، أو بمنطق ديني، وجدل فلسفي كلامي أسسهما ونفخ الروح فيهما سؤال السياسة الذي ضاقة قنواته المشروعة في الوسط الاجتماعي وفي مؤسسات الدولة إلى مسافة صفر، لاسيما مع إعتناق سلطة الإنقلاب لمذهب الجبر الذي عمل على تبرير هذا الإنحراف السياسي وبمنطق ديني قدري يقدس أخطاء الحكام، ويخلي مسؤوليتهم، أمام الإرادة السياسية للعوام، بل يدعوا العوام إلى الطاعة وحسب، ومع هذه التحولات ظهر جيل آخر من المثقفين النخبويين الذين اتخذوا موقفاً فكرياً وعقلانياً نقدياً ضد هذا الإنحراف السياسي والثقافي الذي بدأ يعمل على تحويل الدين إلى أيديولوجيات مذهبية توظف سياسياً في خدمة الحاكم وتبرر في نفس الوقت أفعاله وجرائمه،
مع ظهور هذا المثقف التنويري الذي اتخذ موقف عقلي ونقدي من السلطة المستبدة وسياستها، كان المتضررين من هذا الموقف النقدي يطورون سلاح المواجهة لديهم، وعلى وجهه التحديد أدوات وتقنيات فعل الإغتيال السياسي وبشكل جعل الجلاد هذه المره يضع الضحية أولا في دائرة الكفر أو الزندقه ويمعن في مسألة التحريض عليه تمهيداً لإغتياله على يد المتدينيين “المتطرفين” أو على يد مخبرين السلطة وعساكرها،
وبناءً على هذا الأساس نستطيع القول بأن غيلان الدمشقي كان هو المثقف الناقد والعقلاني الأول في تاريخنا العربي والإسلامي الذي تعرض لفعل التحريض، ثم بعد ذلك لفعل القتل بدافع سياسية على يد الخليفة هشام ابن عبدالملك على إثر موقفه الأول السياسية والفكرية والعقلانية الناقدة لواقع السلطة الفاسدة والمستبدة سياسياً وفكرياً، ليتم بعد ذلك فتح الباب على مصراعيه أمام فعل الإغتيال السياسي الذي يبدأ من نقطة العمل بالتحريض وإلصاق تهمة الكفر والزندقة في حق الخصوم السياسيين، كما هو الحال مع تهمة الكفر والزندقة التي بدأت مع غيلان الدمشقي كما قلنا واستمرت بالتطور إلى زمن الشهيد المغدور به جارالله عمر، نأئب الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني، وسوف تستمر باستمرار وجود هذا المثقف التنويري طالما تحول إلى موقف سياسي وفكري يقف في وجه الإنحراف ولا يساوم قط في مسألة المبادى والأهداف الوطنية النبيلة .
الموقف الإنساني وإتخاذ قرار الإغتيال السياسي.
من يتخذ القرار في جريمة الإغتيال السياسي دائما وأبداً لا يهدف من وراء ذلك إلى تحقيق مكاسب شخصية بحته، وبغض النظر عن بعض الحالات التي يكون فيها المنفذ يهدف إلى تحقيق مكاسب شخصية، فإن الجاني في هذا النوع من الجرائم هو من يتخذ قرار الإغتيال وليس المنفذ الذي يكون هنا شخص مأجور ، أو شخص قابل لتوظيف بسبب أفكاره المتطرفة أو حتى مشاكله النفسية، ولذلك فإن جميع الناس دائماً ما تذهب للمطالبة بضرورة إجراء تحقيقات جاده تكشف أبعاد الجريمة ومن هي الجهة التي تقف ورائها، كما هو حالنا مع إنتظار نتائج التحقيق في جريمة إغتيال العميد الركن عدنان الحمادي، وفي المقابل فإن الضحية في جريمة الإغتيال السياسي لا يكون هو المقصود إبتداءً بشخصه المجرد بقدر ما يكون مقصود في الزمان والمكان الذي تحوله فيه هذا الإنسان من شخص عادي إلى موقف سياسي وفكري ناقد ومعارض لواقع ما، أو أنه شخص بارز ومؤثر في تكتل أو حزب سياسي يمتلك موقف سياسي وفكري تحديثي ناقد للواقع، وهذا ما يفسر قول الكثير من الناس وبشكل تلقائي عقب حدوث جريمة الإغتيال السياسي أن رحيل هذا الشخص أو ذاك لا يمثل مصاب على أسرته فحسب بل مصاب على المجتمع، فجميعنا يشعر مع هذا الإغتيال من الداخل بالخسران الكبير لأن هذا الإغتيال لم يَقْدم على قتل مجرد شخص معصوم الدم فحسب، بل قتل في المقام الأول موقف سياسي وفكري عام أصبح يعبر عن ضمير المجتمع وعن طموحاته المستقبلية، وفي ذلك يكمن سر فجيعتنا جمعياً في إغتيال جار الله عمر ومن قبله إبراهيم الحمدي وفي الأمس القريب بعدنان الحمادي، وفي دائرة أوسع كانت الفجيعة عامة في إغتيال فرج فوده وحسين مروة ومن قبلهم المفكر عبدالرحمن الكواكبي، كل هؤلاء على سبيل المثال وليس الحصر، والقائمة تطول ولا تنقطع بهذا الخصوص .
الموقف القانونى لظاهرة الإغتيال السياسي
الفكر القانوني يوصف فعل الإغتيال السياسي بكونه قتل خارج القانون وهي جريمه يقع فيها الاعتداء على حق الحياه بالتخطيط سرا أو على حين غرة بحق فرد أو جماعة لتحقيق أهداف سياسية، أو بمعنى آخر كما تقول القانونية الفلسطينية، داليا عبدالحميد خلوف : أن مصطلح الإغتيال السياسي يستعمل لوصف عملية قتل منظمة ومتعمده تستهدف شخصيات مهمة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو قيادي .
فجميع القوانين والتشريعات لاسيما الدولية والإقليمية تجعل من جريمة الإغتيال السياسي اعتداء على حق الإنسان بالحياة التي تعد محل حماية قانونية في جميع الاتفاقيات والمواثيق الدولية وفي نصوص القانون الدولي لحقوق الإنسان على وجه التحديد، وكذلك في الميثاق العربي لحقوق الإنسان الذي ينص في مادته الثالثة على : ( لكل فرد الحق في الحياة وفي الحرية وسلامة شخصية ويحمي القانون هذه الحقوق )
لكن الحماية القانونية لحق الحياة تصبح أمر حقيقياً ومحققاً فيما يتعلق بجرائم الإغتيال السياسي على وجه التحديد متى كان القانون قادراً على الوصول إلى متخذ القرار في عملية الإغتيال السياسي وتقديمه للمحاكمة، وليس في محاكمة المنفذ المباشر لغعل الإغتيال السياسي وهذا ما يعد للأن محل نقص كبير في مسألة الحماية القانونية لحق الحياة أمام فعل الإغتيال السياسي نأمل أن يتم تجاوزه من قبل المشرعين، المشرع اليمني بالذات كون اليمن من أكبر الدول التي تحدث فيها جريمة الإغتيال السياسي، ولا تجاريها في نسبة إرتكاب مثل هذه الجرائم إلا دولة إسرائيل مع الفارق أن دولة إسرائيل التي “أسستها حماقة الإنسان” على حد وصف زعيم الثورة الصينية، تمارس فعل الإغتيال السياسي خارج فضائها ضد خصوم الدولة والشعب الإسرائيلي وليس على أبناء جلدتها !
المراجع
1- الإغتيال السياسي كصورة من صور الجريمة السياسية في ظل القانون الدولي العام. داليا عبدالحميد خلوف
2- النزعات المادية في تاريخ الفلسفه العربيه الاسلاميه. د حسين مروه
3- مسلمون ثوار. د محمد عماره
4- الاسلام وفلسفة الحكم. دمحمد عماره
5- أحاديث في آسيا. محمد حسنين هيكل
6- الدولة. جورج بوردو
7- تكوين الاتجاهات السياسية في الاسلام الأول – من دولة عمر إلى دولة عبدالملك –
د ابراهيم بيضون
الورقة الرابعة :
اكثر من اغتيال
ورقة مقدمة للحلقة النقاشية التي تنظمها منظمة الحزب الاشتراكي اليمني – محافظة تعز
حول جرائم الاغتيال السياسي
اعداد
الباحث / ياسين الزكري
في طريقة صياغة ربما مغايرة
على صعيد الشخص الأداة
هو شخص من ثلاثة
مراهق عادي بريئ ربما سريع التأثر، كان يمكن أن يصير شخصا ذي قيمة أو أهمية او فائدة ما لنفسه واسرته ومجتمعه وربما للإنسانية، دفعت به عوامل من نوع الالتزام الزائد لدى الاسرة للانضمام الى حلقة تعليمية جانبية لاتعلم حقيقة ما يحاك وراء جدرانها أو دفع به التفكك الاسري الى السوق المفتوحة المليئة بالمتناقضات على هيئة عامل أو لص يعمل او يسرق ليعيش
أو مراهق مدلل وصل حد الملل واصبح مهووسا بتجربة نوع مختلف من أساليب الحياة
بشكل ما مراهق دفعت به عوامل موضوعية الى الملعب الخطأ فتم اصطياده من قبل محترفين في عالم الاحتواء السلبي
أي أن البداية يمكن أن تكون مساحة تعليمية جانبية أو ربما حتى رسمية او خاصة
أو يمكن ان تكون منطقة عمل أو السجن والى هنا والامثلة في الحياة كثيرة.
مرحلة التجنيد
حدث ما ، تتم صناعته بشكل متقن يهدف الى نتيجة واحدة عبر مسارات متعددة
الهدف هو العزل وأما المسارات فتتعدد اما عبر التمرد عن الاهل بشقه الناعم أوالخشن
واما عن طريق السفر تحت غطاء الرحلات الترفيهية متعددة الأغراض واحدية الاتجاه او الرحلات الطويلة تحت مبرر تجربة الجوع والعطش والارهاق بحثا عن الاجر
واما عن طريق الورطة المؤدية الى السجن وإما عن طريق الورطة والهروب بدافع الحماية واما واما واما
اذا هناك بالنتيجة شخص إما في حالة زهو واما في حالة خطر يتم توجيهه نحو عزلة تتسق ووضعه وطبيعته “عاطفي – مشروع شرير-مشروع نرجسي – أو أ,..” تحت مظلة من التدليل او الحماية او إعادة التأهيل محجوبة النتيجة ابتداءً
من جانب آخر يمكن الحديث عن شاب لديه رغبة في الظهور او الشهرة او تصدر المشهد ظل طريقه بطريقة ما ذاتية او مبرمجة ليجد نفسه هناك بين ايدي المحترفين في غسل الادمغة
مما سبق يتبين ان هنالك ثلاثة اشخاص أحدهم عاطفي سريع التاثر والأخر متمرد يود تجربة الأشياء المغايرة الإدمان اختراق الحدود الاجتماعية وثالث طموح مسكون بالنرجسية وجدوا انفسهم بطريقة ما في وسط يصدقهم ويشيد بهم ويحفزهم ويساعدهم في رسم الطريق وهنا تبدأ القصة
العزلة
عملية مركزة لاعادة توجيه التفكير والمشاعر صوب امر واحد ” الانتقام-المتعة- الشهرة” ومن ثم الاستمرار في التغذية مع استمرار تدريجي في حرف التوجه عن المسار الطبيعي الفطري او الإيجابي الذي يقبل بالتعدد والتنوع أي السير وجهة التطرف في قضية ما .
النتيجة
عقل موجه بكامل طاقته صوب امر واحد فقط يتراءى له ربما أنه الوحيد الذي يمكنه صنع المعجزة التي هي في الحقيقة الجريمة.
انتهاك
ما يحدث هنا اذاَ هو اغتيال عقل هذا الشخص وانتهاك مشاعره الادمية ابتداء
وهي عملية يتم الصرف عليها بسخاء بمعنى آخر “الفقر ليس هو القاتل
وانما الثراء الذي يبلغ حد الرعب من الافتقاد اليه ربما”.
على صعيد أسرته سيتسبب هذا الشخص لاحقاَ في حرمان اسرته منه ومن حلمها الكبير الذي كانوا يتخيلونه فيه ويسعون لانجاحه
سيلحق العار باسرته ودائرتها الواسعة حيث سيغد وبحسب مستوى الوعي الاجتماعي السيار هذا أبو المجرم وتلك اخت القاتل وذاك قريب الإرهابي ووو وبالتالي فهو شخص قضى على حياته وسمعة ومستقبل وفرص اسرته الواسعة وربما أيضا يتم اطفاله ورمل زوجته بحثا عن حور العين اللواتي بالتأكيد لن ياتين لقاتل ادانت جريمته الإنسانية حين اعتبر نفسه في لحظة ما انه نازع العمر عمن يشاء وهو شرك شخص دمر أمن وسلامة ومستقبل اسرته واسرة ضحيته في آن وسفك دما محرما باسم من حرم هذا الدم واعلا شأنه وفرض الحفاض عليه وحمايته وصيانته.
استنتاج مثلما ان هناك عقول تصنع المسدس هناك عقول تصنع أداة جريمة أخرى هي من يحمله لتنفيذ عملية اغتيال وكلاهما يصبح من الضروري التخلص منهما بعد التنفيذ.
اذا في أي عملية اغتيال هناك مقاول وهناك فريق تنفيذ هناك مخطط وهناك مفتي او محرض وهناك بشكل ما اعلامي وهناك المنفذ والجميع يعملون لحساب المقاول الذي يعمل لحساب مستفيد بعيد القضية اذا تتمحور حول هوس السيطرة لدى شخص ما بعيد وهوس الثراء لدى الفريق وهوس المنفذ اشباع تلك الرغبة التي تمت زراعتها فيه حين تم العبث باعداداته العقلية والوجدانية.
اذا القضية باختصار بالنسبة لفريق التجنيد “مجرد شخص تم الحصول عليه من الشارع والاستفادة منه ومن ثم رميه في المحرقة”
على مستوى الضحية
ساكتفي بالحديث عن بعد واحد فقط وهو أن الضحية دوما ليس مجرد انسان عادي بل هو امل شعب في صناعة تحول من نوع ما ، هو صاحب فكرة او مشروع هدفه خدمة بلد وطن وشعب وانتشاله من وضع سيئ لوضع افضل مشروع شخص انكر ذاته من اجل الناس ولأنه كذلك راى فيه شخص ما بعيد مشروع منافس قادم او خطوة في الطريق المؤدية لهز عرشه فقرر ازاحته من تلك الطريق ليتفرد بمواصلة السير في برنامجه القائم على مص دماء الناس ونهب استحقاقاتهم واغتيال احلامهم ومستقبلهم
وقد يكون الضحية شخص يهدد مركز الراجل الكبير في دائرة اضيق
وفي كلا الحالتين فإن الامر باختصار شديد هو اغتيال حلم الدائرة الاوسع وتطلعها وحقها في حياة افضل لحساب فرد او افراد يودون احكام السيطرة على الجميع وإبقاء الحال آنيا على ماهو عليه ومن ثم الذهاب الى ما هو أسوأ واسوأ وأسوأ مماكان عليه.
أما بالنسبة للمعاناة الإنسانية لاسرة الضحية فليس عصيا تخيلها وليس صعبا رؤيتها مع الأسف الشديد في غير مكان.
انتهى.