المواطن/ كتابات ـ أ.د.محمد أحمد علي المخلافي
باحث أول-أستاذ في مركز الدراسات والبحوث اليمني
محام
البيئة الحاضنة للإرهاب:
كانت البلدان العربية والإسلامية مهيأة لنمو التنظيمات التكفيرية وإشاعة التطرف لوجود عوامل توفر بيئة حاضنة للإرهاب متعددة الجوانب: سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية.
وقد لعبت البيئة الثقافية الدور الأساس لاحتضان الإرهاب بسبب هيمنة الفكر والثقافة التقليديين المدعومين بتحالف الغرب والنخب الحاكمة في المنطقة، وهي نخب عسكرية أو قبلية أو دينية لا تمتلك مشروعاً وطنياً ولا قومياً، بل معادية لمشروع الدولة الوطنية الحديثة، وكل همها البقاء في السلطة أو الوصول إليها. وعزز دور هذه القوى الطفرة النفطية في السبعينات، فأزداد التأثير الواسع للدول النفطية في المنطقة على النخب التقليدية في العالمين العربي والإسلامي، وكان لهذا النفوذ تأثير مباشر في اتجاهات متعددة على الثقافة والتربية، ومنها:
1- توسيع المنهاج الديني ضمن منهاج التعليم العام في المدارس والجامعات الحكومية.
2- إنشاء نمط خاص من التعليم الديني أو تعليم موازٍ يعتمد مناهج تعليم متشددة وأفكاراً متطرفة مشحونة بأيديولوجية الكراهية للآخر، وفي كلتا الحالتين أغرقت مناهج التعليم بالمفاهيم السلفية المتطرفة.
وفي البلدان العربية التي لم يكن بالإمكان التدخل في وضع منهاج التعليم فيها، جري استقطاب شبابها إلى المعاهد الدينية في البلدان الأخرى، كالشباب التونسي والليبي والجزائري والسوري، وهي بلدان تحكمها أنظمة تسلطية خلقت هي الأخرى تطرفاً نقيضاً لها، مما جعل شباب العالم العربي فريسة للإرهاب، وذلك بالتنشئة المتطرفة لهم، وتطويعهم وتسخيرهم باتجاه العنف والإرهاب عبر التعليم في البلدان التي صارت فيها المدارس والجامعات والمعاهد الدينية نمطاً تعليمياً موازياً للتعليم العام، ومستقلاً عن مؤسسات التعليم الرسمية كاليمن والسودان والسعودية، واستقطاب هذا النمط من التعليم لأبناء البلدان الأخرى.
3- لقد ساهمت الطفرة النفطية في دول الخليج وإيران بشكل واسع في خلق بيئة ثقافية حاضنة للتطرف والإرهاب (السني والشيعي) بطرق متعددة: عبر دعم القوى التقليدية بالمال، وإنشاء تنظيمات سياسية متطرفة دينياً، وإنشاء جمعيات خيرية لاستقطاب أبناء شرائح واسعة في المجتمعات العربية مستغلة الفقر والحاجة والحرمان، وعبر المهاجرين نقلت تقاليد وعادات ما قبل المجتمع الحديث، بما في ذلك نمط العيش والملبس.
لم يعرف العالم العربي في تاريخه المعاصر ما وصل إليه اليوم من احتقان مذهبي، ولا هذا المستوى من الحقد والثأر في نشر ثقافة الكراهية ليس للخصم السياسي وللتقدم والحداثة والمدنية فحسب، بل وللآخر الديني والمذهبي بسبب انتشار الفكر الديني المتطرف السني والشيعي واختراقه للبنية الثقافية والتعليمية والإعلامية؛ إذ لم تتوقف فتاوى التكفير عند الخصوم السياسيين المختلفين ايديولوجياً: اليسار خصوصاً والمجتمع المدني عموماً، بل امتدت إلى المذاهب والجماعات الدينية، فالتنظيمات السياسية السنية تكفر الشيعة والاسماعيلية والصوفية، والتنظيمات الشيعية المتطرفة تكفر السنة. ويدعو الإسلام السياسي في الطرفين للجهاد ضد بعضهما البعض، والدافع سياسي والمصالح سياسية، فكان التكفير السلاح بيد المتطرفين في مواجهة الجميع، وكانت المدارس والمعاهد والجامعات المتشددة والمتطرفة الحاضنة والفقاسة الأيديولوجية لثقافة الجهاد والإرهاب في العالمين العربي والإسلامي، وبالتالي، خرجت شريحة واسعة من المقاتلين الذين يحملون فكر وثقافة الكراهية تجاه المجتمع والآخرين المغايرين لهم، فضلاً عن غرس مفاهيم التطرف والغلو، تحولت في الممارسة العملية إلى قوة مدمرة، ازدادت هذه القوة تدميراً بعد احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق عام 2003م، وسعيها إلى جانب الدول الإقليمية الصديقة والعدوة لها إلى الهيمنة على المنطقة عبر الصراع الطائفي، ولعبت إيران في ذلك الدور الأساسي، وتبعتها تركيا والدول والجماعات العربية القريبة أو الحليفة لكل من الدولتين. وهنا تحول المسجد والمدرسة والجامعة والكهف والحقل إلى معسكرات تُعقد فيها الاجتماعات والتعبئة الأيديولوجية والتدريبات العسكرية.
جميع الجماعات المتطرفة، عدوها التغيير والتحديث والديمقراطية وحقوق الإنسان، يلتقون في ادعاء الاصطفاء الإلهي لهم لحكم البشر كورثة للأنبياء (العلماء) أو الولي الفقيه أو ورثة الحسن والحسين، وبالتالي، يلتقون في تحريم الفنون والتعددية السياسية والحزبية والموقف السلبي من المرأة، ويكفرون الجميع ما عدا “حزب الله” الذي يدعي كل طرف متطرف أنه حزبه، أو أنه “الفرقة الناجية”.
لقد استطاعت دول الهيمنة على العالمين العربي والإسلامي من داخل الإقليم وخارجه استغلال التطرف وأن تدفع بالتطرف والإرهاب إلى تدمير الدولة بشن حروب شاملة وإجهاض كل مسعى للتحول الديمقراطي، كما هو جاري في اليمن والعراق. والمشترك بين التنظيمات المتطرفة مناهضة الديمقراطية وحقوق الإنسان والدعوة إلى الكراهية الدينية والقومية والوطنية ضد الخصوم السياسيين، وثقافة الحروب والثأر.
تكرس التيارات المتطرفة نظرياً وعملياً فقه التشدد والتعصب وثقافة القتل باسم الجهاد، وهي جميعاً لا تقبل بالآخر السياسي والديني والمذهبي المختلف، وهي بالتالي، لا تقبل ببعضها البعض، لأنها تقوم على أيديولوجية عدم القبول بالتعدد والتنوع والاختلاف وترفض الآخر أياً كان.
يُصنف جزء من التنظيمات المتطرفة بأنها تنظيمات إرهابية، ولا يشمل ذلك الكل، لكن الإرهاب يبدأ فكراً متعصباً ومتطرفاً يحتكر الحقيقة في ذاته الأيديولوجية، ثم يتحول إلى جريمة وقتل اعتمدت فيه التنظيمات الإرهابية القتل بالاغتيالات والتفجيرات الانتحارية وسيلتها الأولى، وتحولت مع داعش وأخواتها إلى حروب شاملة تتشارك مع نظيراتها الشيعية في هذه الحروب، وفي الاغتيالات المعنوية في التكفير الديني وتحريم الفنون: التشكيلية والرسم والنحت، والفنون الموسيقية والغناء والمسرح والسينما، وفرض قيم محددة من السلوك وأنماط معينة للعيش.
إذن الحواضن الثقافية الأيديولوجية للتطرف والتشدد الديني تعبر عن نفسها بالتكفير الديني ومن خلال تكرار خطاب الدعوة للكراهية الدينية والقومية.
مما تقدم يتبين، إن أهداف وغايات التنظيمات الإرهابية والمتعصبة والمتطرفة التي تنشر العنف، هي أهداف سياسية، وثقافة العنف غطاؤها ديني. لكنها في واقع الأمر ثقافة سياسية تستخدم الدين لتحويلها إلى ثقافة عنف وتوحش، فتصير ثقافة سياسية واحدية رافضة للحرية وللتفكير العقلي النقدي، ومن ثَّم، تصير مصدراً للتعصب والجمود، ومصدراً للعنف والكراهية والحقد والحروب. وهي ثقافة تعتبر التنوع والتعدد السياسي والديني والاجتماعي عدواً يجب شن الحرب عليه، وهي الثقافة التي تغلب اليوم في عالمنا العربي والإسلامي، وبيئتها الحاضنة هي الثقافة والبُنى الاجتماعية التقليدية، التي لا تقبل بالآخر، مما جعل تنظيمات التطرف والتكفير تستهدف مشروع الدولة الوطنية، وتدمير البناء الفوقي للمجتمع الذي كان في طريقه إلى تحويل بنية الدولة والمجتمع إلى بنية حديثة. وكان العنف وسيلتها العملية للعودة لتغليب البنى التقليدية، مما جعل العنف في أعلى درجاته يتحول إلى حروب، بسبب تحول الصراع السياسي على السلطة والثروة إلى صراع ديني، أي إحلال الدين محل السياسة، مما أعاد مجتمعات عربية إلى ما قبل الدولة والقومية والتحضر، وإلى الطائفية السلالية والمذهبية والقبلية، وإلى العشيرة والمنطقة والجهة. فشاع التعصب وحرب الكل ضد الكل. فصار العالم العربي اليوم وصارت بعض الدول الوطنية أمام تحدي الوجود ومهددة في كيانها السياسي ووحدتها الترابية ونموذج ذلك، اليمن وليبيا وسوريا والعراق.
تلتقي أطراف العنف في العالمين العربي والإسلامي حول مشترك واحد، هو: تكفير الآخر وتخوينه من خلال الدعوة للكراهية الدينية على كافة الأصعدة: الوطنية والقومية والعالمية، وبشعارات وأهداف كبيرة عالمية ضد الصهيونية و”الاستكبار” العالمي ممثلاً بأمريكا، لكسب عواطف البسطاء، وما أن تستشعر الاستجابة حتى تنتقل للدعوة للكراهية الوطنية والسلالية والمذهبية داخل كل قُطر، وضد كل القيم الحديثة والديمقراطية وحقوق الإنسان والعلوم والآداب والفنون.
إذن مناهضة التطرف والعنف يتطلب خلق ثقافة جديدة، وهنا يأتي دور المثقف، بما في ذلك المثقف الجماعي، ويأتي دور المفكر في إشاعة الثقافة الحديثة وإشاعة التسامح الذي يحقق الوفاق في ظل الاختلاف والقبول والإقرار بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والقبول بالآخر المختلف، وإيجاد مناخ عام فكري وعلمي وأدبي للقبول بالمختلف والمغاير، وإيجاد ثقافة وجدانية تشيع حب الحياة والعيش المشترك مع الآخر، والتعايش معه كما هو، والقبول بالمختلف في عقيدته وايديولوجيته وموقفه السياسي، ومركزه الاقتصادي والاجتماعي، ليشمل المنتمين إلى الديانات السماوية وغير السماوية واللادينيين والملحدين. ومن خلال العلوم والفنون والآداب يستطيع المثقف والمثقف الجماعي والمفكر أن يجعل ثقافة التسامح رؤية إنسانية شاملة، وأن يجسدها من خلال النتاج الفكري والأدبي والفني ومختلف أعمال الإبداع، وبالتنظيم والنشاط الحركي، ولاسيما من قبل المثقف الجماعي، الذي يمكنه أن يجعل هذه الثقافة مجتمعية وبديلة لثقافة العنف والإرهاب.