المواطن/ كتابات- فهمي محمد
في اليمن سارت الخطى بشكل أفضل في مسار فعل التغيير الثوري واقصد على وجه التحديد ما يتعلق بثنائية الدولة والديمقراطية ، فلم يتم القفز مباشرة نحو الديمقراطية التنافسية على إثر إزاحة صالح كما حدث في مصر بعد إزاحة مبارك ، بل تم التركيز أولا ً على مسألة بناء الدولة الوطنية التي تم إسقاطها من جدول أعمال الوحدة اليمنية التي تأسست في عام 1990/ بين شمال اليمن وجنوبه في ظل حكم الحزب الاشتراكي اليمني في عدن والمؤتمر الشعبي العام في صنعاء .
قد يقول قائل أنه تم انتخاب عبد ربه منصور هادي أولاً ، لكن ذلك في حقيقة الأمر لا يمت بأي صلة لمسألة الديمقراطية التنافسية المقصودة في حديثنا ، فما حدث هو مجرد استفتاء على شخص عبد ربه منصور هادي بقصد الحفاظ على ماء وجه صالح قبل رحيله عن رأس السلطة ، بمعنى آخر أراد نظام صالح أن يكون هذا الأخير في الخطاب السياسي وفي الأدبيات السياسية المتداولة مستقبلاً هو الرئيس السابق لليمن وليس الرئيس المخلوع على إعتبار أن مصطلح المخلوع له دلالاته في زمن الربيع العربي .
بلا شك وجدت أخطاء متعددة في مسار الفعل الثوري في اليمن وهي بطبيعة الحال قد أدت إلى هذه المألآت التي نعيش في ظلها حتى اليوم ، لكن طبيعة المقالة التي نحن بصدد كتابتها لا تستدعي الحديث عن تلك الأخطاء ، فما يهمنا في ذلك هو أن الأحزاب السياسية في اليمن وهذا شيء محسوب لها ، أصرت على فكرة الحوار الوطني الشامل التي كانت تطرح من قِبلها قبل أحداث الربيع العربي أثناء اللقاءات البينية بين السلطة والمعارضة ولم يتم الإستجابة لها ، لا سيما في ما يتعلق بإنحراف مسار الوحدة وبمسألة الدولة الوطنية بكل أبعادها السياسية والقانونية والدستورية التي تحددت لاحقاً في مؤتمر الحوار الوطني بصورتها الإتحادية ، على إعتبار أن خصوصية المشكلة السياسية والواقع الاجتماعي الذي تم تفخيخه في اليمن اكثر من اللازم بفعل السياسات الخاطئة والمتراكمة من قبل نظام صالح ، قد استدعت بالضرورة تقديم مثل هذه الحلول السياسية الناجعة والمتعلقة بشكل الدولة كحد أدنى للحفاظ على الوحدة اليمنية وكذلك للحفاظ على الهوية اليمنية الجامعة على المستوى الوطني التي أصبحت في عهد صالح وحلفائه من القوى التقليدية =( ثلاثيه الابعاد والتكوين الممانع ، قبلية ودينية وعسكرية التي انتصرت بقوة السلاح في حرب 1994م لمفهوم الإقصاء والاستقواء ) قد أصبحت قابلة للإنشطار والتشظي أكثر من اللازم وبشكل يتجاوز حالة الإنقسام السياسي الذي كان قبل عام 1990م يقف عند حدود البرميل المصطنع والذي ظل عقود من الزمن يقف كرمزية نكره على الجغرافية اليمنية وبشكل يدين سياسية الحكام في اليمن ليس إلاّ ، لا سيما وأن المواطن اليمني في الشمال وفي الجنوب كان على الدوام يشعر بالإنتماء لليمن الواحد وللهوية الوطنية الجامعة ، بل ويتطلع سياسياً واجتماعياً إلى يوم الوحدة التي سوف يختفي في ظلها ذلك البرميل الواقف بشكل يتنافى مع أحكام الجغرافية والتاريخ في اليمن ، أما اليوم وكنتاج لتلك السياسات السمجة لا سيما تجاه الجنوب والتي مارسها تحالف صالح والقوى التقليدية ثلاثية الأبعاد والتكوين الممانع لمفهوم دولة الوحدة منذ 94م ، فقد تسرب الإنقسام السياسي وحتى الاجتماعي إلى داخل نفوس اليمنيين وبشكل مخيف أصبح يستدعي ويستقطب بين الحين والآخر كل النماذج والممارسات العبثية التي تم دفنها في الجنوب بعد ثورة أكتوبر والتي كانت تتقاطع بالمطلق مع مفهوم الهوية الوطنية الجامعة لليمنيين التي تظل بقوة المنطق ضاربة في أعماق التاريخ والحضارة منذ القدم .
بفعل تلك المعطيات والممارسات السياسية والاجتماعية التي تتقاطع مع مفهوم الوحدة منذ صيف 94/ والتي ظل نظام صالح يكابر عليها ولا يعترف بوجودها كمشكلة سياسية واقعية لها من الأبعاد والمألآت الخطيرة على مستقبل الأجيال في اليمن الموحد تشكلت القضية الجنوبية ، التي فشل نظام صالح في احتواء اعتمالاتها السياسيه التي تحولت إلى قضية عادلة تتعلق بمفهوم الوحدة اليمنية وبمفهوم الدولة الوطنية وبمفهوم الشراكة الوطنية بين الشمال والجنوب ، وحتى بمفهوم العملية الديمقراطية التنافسية التي تم إفراغ محتواها حتى يوم اندلاع الفعل الثوري في عام 2011م ، الذي استطاع أن يمنح اليمنيين في الشمال وفي الجنوب فرصه تاريخية وحقيقية للوقوف على جوهر المشكلة اليمنية في مؤتمر الحوار الوطني الشامل ، الذي عمل بمنطق التوافق الوطني على إعادة صياغة مفهوم الدولة وفق أدوات وأسس وطنية بدت ناجعة ومؤهلة في الواقع وبشكل يجعل من اليمن دولة قادرة {على عبور المضيق } على حد وصف أحد عتاولة السياسية في اليمن ” دكتور ياسين سعيد نعمان ” في كتابه المميز تحت هذا الاسم .
وحتى فيما هو أكثر نجاعة في عملية التحول والتغيير فقد تحايثت عملية الوقوف على مشكلة الدولة الوطنية في اليمن ={ صياغة مشروع الدولة الوطنية الإتحادية في مؤتمر الحوار الوطني} مع العمل على تفكيك منظومة السلطة القائمة لا سيما مؤسسة الجيش والأمن التي تم الشروع في هيكلتها بُغية تحويلها إلى مؤسسات وطنية تعمل على حراسة عملية التحول والتغيير في اليمن ، لكن تلك الهيكلة المتعلقة بالجيش لم تصل يومها للحد اللازم داخل المؤسسة العسكرية ولم تأخذ الوقت الكافي لها ، لا سيما وأن العبرة في هيكلة الجيش بناءً على اُسس وطنية تعد مسألة تتعلق إبتداءً باعادة صياغة مفهوم العقيدة القتالية والولائية لجميع الأفراد والضباط أكثر من كونها عملية تتعلق بتغيير قادة المعسكرات والألوية وهذا في حد ذاته يتطلب وقت كبير لا يقاس بسنة أو بسنتين على أقل تقدير ، وهو ما لم يتاح أمام فعل التغيير الثوري في اليمن ، لا سيما وأن قوى الثورة المضادة كانت تتقارب بخطى متسارعة في اجندتها ، بل دخلت مع فعل التغيير داخل المؤسسة العسكرية في سباق مع الزمن وبشكل أدى إلى تمكين تحالف صالح والحوثيين من الإنقلاب على مشروع الدولة الوطنية الإتحادية في لحظة فارقة وفي منعطف تاريخي بدت فيه اليمن قادرة على تجاوز معضلة الرسوب في اختبارات السياسية .
و على إثر هذا الإنقلاب الذي أعاق مسار التحول التاريخي، دخلت اليمن في حروب طاحنة أصبحت تتكشف وتفتقد تدريجيا لشروط الحروب الثورية المؤهلة لإنتاج شروط التحولات التاريخية ناهيك عن كونها أسقطت بكل سماجة مبدأ السيادة الوطنية وكشفت بشكل سافر غِطاء الداخل الوطني على مصراعيه أمام أجندات ورغبات ومطامع قوى الخارج اللا وطني إلى أجل غير مسمى .
إذاً نستطيع القول إن فعل التغيير في اليمن كان موفقاً في خطواته فيما يتعلق بتلك الثنائية المتلازمة في مفهوم الدولة المدنية = { الدولة الوطنية + الديمقراطية الليبرالية } فقد عمل مؤتمر الحوار الوطني بآلية توافقية ولو بحدها الأدنى على تحديد المشكلة اليمنية التي تتمثل بعدم وجود الدولة الوطنية أولاً ، لا سيما وإن هذه الأخيرة تعد في كل الأحوال مقدمة سياسية ضرورية وشرط موضوعي في صيرورة التحولات المدنية والسياسية وحتى الاجتماعية والثقافية المتعلقة بالمفهوم الواسع للدولة المدنية .
ومع أن مسألة الدولة الوطنية في اليمن ظلت منذ عام 1990م محل إعتراض شديد تارةً بأدوات سياسية وتارةً بأدوات عسكرية من قبل تحالف القوى التقليدية الممانعة = {ثلاثية الأبعاد والتكوين } التي ترى في مفهوم الدولة الوطنية فكرة تتقاطع مع مصالحها السياسية والاقتصادية التي يتم تغليفها في خطاب ديني يستثمر غالباً في رأس المال السياسي ، إلاّ أن الدولة الوطنية بشكلها الإتحادي أصبحت هي القضية المركزية في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني وبشكل يُلزم الشُروع في تنفيذها اولاً قبل الدخول في العملية الديمقراطية التنافسية بين المكونات السياسية الحزبية التي تعد هي المؤسسة الحاكمة في الدولة المدنية ، ولهذا فإن الإنقلاب في اليمن استهدف في المقام الأول مشروع الدولة الوطنية وعلى يد جماعة تحمل فكراً سياسياً يتقاطع بالمطلق مع مفهوم الدولة الوطنية ، بل تحمل أيديولوجية ثقافة تعمل على سحب المجتمع الى عصر ما قبل الدولة الوطنية وذلك عن طريق النفخ في الهويات الجزئية المذهبية والسلالية القادرة في نفس الوقت على استدعاء كل النماذج التاريخية السمجة والقيم الثقافية الماضوية والعصبوية وحتى الدخيلة على المجتمع والتي تؤدي بطبيعة الحال إلى تعميق حالة من الفرز المقيت واللامعقول داخل المجتمع اليمني وبشكل يعمل على تفتيت مفهوم الهوية الوطنية الجامعة لليمنيين والتي تعد بحد ذاتها شرط موضوعي في مفهوم الدولة الوطنية ، كما أن تجاوز تلك القيم الماضوية والنماذج التاريخية التي يتم استدعائها وإعادة إنتاجها اليوم في الشمال والجنوب يعد هو الآخر شرط موضوعي في مفهوم الدولة المدنية على إعتبار أن الدولة المدنية تتطلب على مستوى المجال الاجتماعي وحتى السياسي عقلاً جمعياً ومخيالاً سياسياً مشبع بالقيم المدينة الحديثة وليس العكس من ذلك !!! .