المواطن / كتابات _علي عبدالفتاح ـــ الحلقة الأولى
الإهداء إلى كل من (الحرية المطردة التفتح والإبداع المؤصل والإقناع الديمقراطي الحر) و(لا للعسكرة السلطوية تحت أي مبرر وكذا لا للإرغام من أي شكل وكذلك الاستبداد بأي لون واتجاه ثم لا للتلقين الحتمي اللاديمقراطي) وحين أضغط على أولوية الحرية في هذا المقال بالذات إنما حتى لا ينخدع القارئ بالاستنتاجات اليسارية المتوالية المبثوثة في المقال والذي يعكس وقائع الأحداث والظواهر فعلاً منذ فجر الزمان حتى البيروسترويكا الأخيرة التي فتحت لليمينية مجراها الفعلي التحولي البالغة الأهمية والإثمار في ظروف التأكيد على الطبقية المبدئية للحزب العمالي المبدئي ودون استثناء أحد بعد ذلك.
إثر انهيار العلاقات العبودية واضمحلالها داخل الامبراطورية الكبرى الرومانية التالية للإغريق العظيمة بنتيجة ثورات العبيد التي وصلت إلى اقتحام روما وبنتيجة الحروب التوسعية التناحرية الخارجة الممتدة والمفككة المهلكة والحروب الداخلية البينية المشرذِمة وانقلابات وتمردات القصور الامبراطوارية وغزو القبائل المجاورة لروما إبان ذلك لاسيما القبائل الجرمانية التي دشنت التاريخ التحويلي الكبير إلى العلاقات الاقطاعية الأكثر تطوراً والأقل استبداداً حيث شهد العالم تحولات داخلية بنيوية في اتجاه السخرة القنانية فالشراكة المحاصصية القاسية فالعلاقات الاستثمارية النقدية الأشد استغلالاً وأثر هذه التحويلات الاقطاعية الثلاث في انبثاق الحروب الفلاحية الثورية أساس انبجاس “الديمقراطية الثورية” المرافق لنشوء الأديان الكتابية السماوية الكبرى الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام التي شنت اجراءتها المتدرجة الكبرى لاستئصال بقايا العبودية بل وضداً من طغيان العلاقات الاقطاعية التي تبدو أو بدت حينها طاغية الاستبداد والرعونة الخشنة حيث مثلاً ظهر يهوذا العبري اليهودي على رأس الفلاحين ضد هذه الأوضاع إلا أنه أيضاً سرعان ما قاد الجموع دينياً ليناوئ يسوع المسيح والحواريين لاستئصالهم والذي أي عيسى المسيح كان قد ظهر ناشئاً ليقود البشرية وليس اليهود فحسب عبر سلسلة من القيم والمُثُل المباركة التغيرية العظمى في كل المجالات, بقوة وعنفوان كل من التعاليم الدينية والفقهية وحب البشرية الخالد…. وبعد إبادة الحواريين من قِبل أباطرة وقياصرة تلك المرحلة المرافقة لتبني روما نفسها للمسيحيين المعذَّبين نشأت الكنيسة الاقطاعية الاستبدادية المستولية على الأرض والمزاحمة بقسوة للإقطاعيين الدنيويين من أجل السيطرة المطلقة الناجحة تارة والفاشلة أخرى على سلطة الدولة التي كانت تستقر على قمتها الإقطاع الدنيوي الوثني حينئذٍ الأمر الذي أدى إلى انطلاق ثوري جديد للحركة الفلاحية العنودة المشبعة برذائل الاضطهاد والقسوة في نضال ممتد ضد الطغيان الاستغلالي الإكراهي للإقطاع بقسميه الكنسي والدنيوي.
على أن المسيحية الباكرة تعاليماً وبشراً كانت وظلت تتمسك بتعاليم عيسى أي يسوع المسيح في مجمل نشاطاتها المادية والروحية فاندفعت في مجمل نشاطاتها التعاونية والاستهلاكية وناضلت بضراوة ضد الطبقية والاستحواذ الطغياني الزميت ومن أجل المساواة حيث يعتبر مثل هذا الكفاح المرير الشكل النموذجي التاريخي الأولي لنشأة “الديمقراطية الثورية” مع بواكير العصور الوسطى وحتى الاضمحلال الأول لهذا الشكل الأولي “للديمقراطية الثورية” الدينية الباكرة التي تطورت لاحقاً لتتعقد إلى مستويات أعلى من التطور والاستمرارية… هذا وقبيل نشأة الاسلام مباشرةً نشأة حركة ما تسمى بشعراء فرسان الصعاليك الذين ينقضون على القوافل التجارية ويوزعونها على الفقراء لا لكي يغتنون منها بل لكي يفتخروا ويعتزوا بمثلهم هذه كما سجل ذلك أدبهم الخالد وذلك في ظروف مرافقة لظهور الدهريين (الماديين) في طوايا وثنايا مكة والطائف والمدينة ومنهم أفراد من أقرباء خديجة (رضي الله عنها). وكان للنبي والرسول (ص) مواقف في الفعل والقول في تحقيق المساواة بل وحقق المساواة المطلقة بين المهاجرين والأنصار إلى درجة الأخوة الإعجازية التامة بينهم, هذا وقد اتخذ تشريعات مبكرة ولايزال تحت الاضطهاد القاسي ضد حركة قريش التجارية وتقاليدها وضداً من أي شكل من أشكال الغش أكان عملياً أو رمزياً إلخ إلخ حيث انتقل إلى رفيقه الأعلى فقيراً لم يورث. ومن إشعاعات القرآن الأخلد وتعاليم النبي وسننه ساد العديدين من صحابته الغر الميامين نزعات مساواتية اجتماعية مدهشة ومن أبرزهم أبو ذر المقصي حتى الموت والصدّيق الذي أنفق جلّ امواله من أجل انتصار الاسلام والفاروق الشهيد وأبو تراب كرم الله وجهه رمز الشهداء والسبطين الشهيدين لاسيما الحسين والخليفة الخامس الراشدي الشهيد عمر بن عبدالعزيز كأمثلة بارزة لا للحصر. هذا ومن القرآن والسنة إلى الفقه إلى علم أصول الفقه والدين المرادف لنشأة الكلام وعلم التصوف الزاهد إلى الفلسفة العقلانية التأملية الاسلامية الناهضة في ظروف تبلورات متدرجة لعوامل الانحطاط الثقافي الحضاري الاسلامي الأمر الذي أبرز الانقسامات الإسلامية عمقاً واتساعاً على كل المستويات ومنها الفرق الاجتماعية السياسية “الديمقراطية الثورية” الاسلامية فحركة الزنج في العراق وكالحركة القرمطية في العراق والبحرين والإحساء واليمن وعموم الحركة الاسماعيلية وحتى المطرفية الملحدة الزاهدة لا تزال رغم تشرذمها وتشردها بسبب الإبادات المتتالية في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تشرئب في اتجاه إحياء تراثها المنظومي الثقافي الحضاري القديمة بمساعدة التراث الفلسفي والعلمي الإسلامي والشرقي عموماً وتلك المتكونة أيضاً إبان الزمن الاقطاعي المستحدث في اتجاه النهضة العالمية الحادثة من تعقد وتطور العلاقات السلعية النقدية الحرفية التجارية فالتكنيكية فالعلمية المضافة إلى أسس أساس تطورها النهضوية الخاصة المستقلة أو شبه المستقلة مما أدى إلى بروز الأشكال المستحدثة من “الديمقراطية الثورية الأوروبية” ضداً من الإقطاع والكنيسة في صورة واضحة مكشوفة أو مموهة بالزندقة والهرطقة في ظروف الاستمرار الجنيني المتباطئ للتقدم الرأسمالي الذي امتص ذلك الطابع “الديمقراطي الثوري” لصالح زمن الثورات البرجوازية الرأسمالية اللاحق ابتداءً من هولندا التحررية الوطنية والاجتماعية المزعزعة والمتجاوزة للإقطاع وذلك بعد التبلور الأولي الحرفي التجاري التكنيكي لفلورنسا الإيطالية ثم انتقال الأدوار المنظومية للثورة البرجوازية الرأسمالية إلى انجلترا ثم فرنسا الثورية الكبرى فألمانيا في ظروف لا تخلو من أزمات عميقة لطوابع هذه الثورات الأمر الذي أعاد تشكل التكتلات الجماهيرية المحدودة “للديمقراطية الثورية” الطامحة في مجابهة هذه الأزمات في اتجاه الثورة أو السيطرة على السلطة وذلك ابتداءً من الحفارين في انجلترا وبابييف الخالد في فرنسا وتجمعات وتكتلات مبعثرة في ألمانيا … لكن العلاقات الرأسمالية قد شقت طريقها حينئذٍ في بنية أوروبا الغربية الأمر الذي أدى سريعاً إلى حركة استيعاب “الديمقراطية الثورية” ضمن مجراها البرجوازي الرأسمالي التقدمي وذلك لأن “الديمقراطية الثورية” تضمحل تحت تأثير شروط وعوامل أربعة وهي كالتالي:
نمو المدن وتعممها المتوسع المتعمق فتحديدها لشروط نمو القرى والأرياف .
نمو العلاقات الرأسمالية فتعقدها وتعممها.
انتصار العلاقات الاشتراكية القديمة ناهيك عن صيرورات العلاقات الجديدة لها المتغيرة المترعة بالسرعة القصوى المدهشة والتوطد الجماهيري الزاخم.
ضعف وتفكك الاقطاع في بعض البلدان المتأخرة لاستمرار بقاء المشاعية الممتد والقبيلة لصالح طريق التحديث المدني الجاري والزاحف.
على أن “الديمقراطية الثورية” بعد ذلك وبسبب التأخر المتأصل في بعض جهات العالم بقيت تواصل نضالاتها الباسلة في البلدان الأخرى الرازحة داخل المرحلة الاستبدادية الاقطاعية لا تزال مثل روسيا واليابان وأوروبا الشرقية والصين وكوريا ثم تركيا العثمانية ثم العالمين التحررين اللاتيني والاسلامي ومنه العربي.
هذا وقد نجحت روسيا وأوروبا الشرقية في بلورة تراث تقدمي “ديمقراطي ثوري” لجب في مسار نسقي تقدمي متناغم ومتناسق بل وشكلت المقدمات سياسية واجتماعية جينية لعصر الفكر الاشتراكي العلمي الذي التحم مع هذا التراث الديمقراطي الثوري نقدياً منذ النشأة الباكرة لنشاطات ماركس وانجلز وآخرون من كلاسيكيينا, ومنذئذٍ بدأت النشاطات الثورية تنضوي تحت الإدارات الماركسية الشيوعية أما غير ذلك فإنها تواجه آفاقاً غائرة فاشلة إثر السقوط النهائي للأفكار الراديكالية الطوباوية والرومانسية والميكانيكية لاسيما وبشكل قطعي ونهائي منذ البيروسترويكا الأخيرة وصعوداً.
وعليه فإن الوضوح والوضوح الدقيق هو مربط الفرس وواجب جميع الكوادر أن تتحوصل نسبياً على أساس ذلك وعلى أساس استشفاف مدى حراك الواقع ونبضاته المشرئبة إلى المدى القريب والبعيد لأن الوضوح وبخاصة الوضوح المبرهن هو الذي يضمن عدم التضحية بالمكتسبات المتراكمة وبالتالي يضمن عدم التضحية بالجموع أو بالذات وعلى طريق تفعيل التراكم, التراكم الموضوعي الذي يؤدي إلى التحولات الإيجابية بل والنوعية في الوقت الذي أصبحت فيه كلفة الوضوح بخساً زهيداً على عكس الماضي بل على عكس السبعينات والثمانينات وحتى التسعينات لأن الوقائع والشواهد أصبحت على سطح الظواهر لا مختبئة في الأعماق كما كانت, وتعقيدات التطورات مع الأزمات تجعلها مبثوثة في كل اتجاه بل ويصبح الجميع ــ انقاذاً للذات ـــ يتطلبون المصالح المشتركة باستثناء المستفيد الأوحد من أزمات الجميع كالولايات المتحدة التي ستندفع لاحقاً إلى احترام وتقدير مصالح الجميع لاسيما إثر تصحيحاتها الداخلية المرتقبة عاجلاً لا آجلاً خضوعاً لمصالحها العليا الجماهيرية لا مصالحها الوحيدة أو الأوحدة تحت تأثير الحاحاتها البينوية التاريخية المتولدة… المتكونة الآن على أن ذورة تطورنا “الديمقراطي الثوري” العربي واليمني كان في الخمسينات والستينات وبعد ذلك سرنا في خط موازي مشتبك مع القصور الذاتي حتى قصيدة (تاج النهار أو مخلف صعيب) ثم المرحلة الجماهيرية من تطلب الحزب البني الشكل الأخير المأزوم المضبب “للديمقراطية الثورية” أيضاً وبالضرورة الحتمية المنقادة على أساس أخطاء اجراءاتنا إلى المآسي والكوارث لاسيما في ظروف اليمن الموحد نظراً للانتقاص القاصر جداً من الأهمية القصوى لمسألة الحرية والإبداع والاقناع اللاتي تضمنا الوضوح الأكيد وبالتالي الانتصار على المعضلات فالتقدم العلمي الدينامي المدعوم بشراكة عالمية قائمة على الفهم التفصيلي والحنكة السياسية وإلى الأمام بعيداً عن أحاسيس العسكرة البليدة المتناقضة جذرياً مع كل ما يدور الآن في دنيانا الراهنة والعاجزة عن التكيف الإيجابي الإبداعي معها أبداً فإلى الحلقة الثانية الأخيرة وشكراً.