المواطن / كتابات – فهمي محمد
بحسب مقاييس ذلك العصر ، ابو عثمان عمر بن عبيد هو ابن أحد الموالى الذين أتت بهم الفتوحات الإسلامية من خارج الجغرافية العربية، يقدم على كل هذا التعنيف في قصر الخلافة وفي وجه خليفه من قريش ،وتحديداً من بني العباس والمنصور بالذات !
بلاشك ذلك الحدث قد رج عقول الحاضرين في المجلس بالحيرة والذهول ، فما حدث هو اللامعقول عند هؤلاء المتمجدين المسبحيين بحمد سلطان المنصور العباسي ، لكن المفارقة أن هذا اللامعقول في نظر هؤلاء كان هو عين المعقول وذاته عند المنصور نفسه ، لذلك قال هذا الأخير في وجه الحاضرين بعد مغادرة ابن عبيد مجلسهم :
كلكم يمشي رويدا،
كلكم يطلب صيدا
الا عمر ابن عبيدا
في هذه المواجهة الخالدة بين تلميذ أصبح خليفة أو أمير المؤمنين ، وبين أستاذ من الموالي، لا يملك سوى الموقف، ويعرف على أي باب يقف ،حين يتعلق الأمر بالسلطة والسياسية والشأن العام ، في هذه المواجهة لم يُطلب من هذا الأخير الوقوف على باب السلطان ،ولا حتى القيام بدور عطار السلطة ، بل طُلب منه أن يكون هو وجماعته أصحاب قرار في الدولة الجديدة ، ومع ذلك رفض ابن عبيد هذا العرض الكبير والمغري ،فالمسألة لا تتعلق عنده بتحقيق مكاسب شخصية أو حتى حزبية ،إذا ما جاز لنا أن نطلق على جماعة عمر بن عبيد حزب ، بل تتعلق في نظر هذا المثقف الثائر بمسار وتوجه سياسي انحرف عن الطريق الصحيح ، وأكثر من ذلك يتعلق بمشروعية الحاكم نفسه، فالمعتزلة في المسألة السياسية كانت مع فكرة الشورى ،وضد نظام التوريث الذي سار عليه العباسيون ،كما هو حال الأمويين قبلهم .
في كتابه مسلمون ثوار يتحدث محمد عمارة عن سيرة هذا المثقف التنويري والإنسان المكافح، في مبحث عنوانه ” الزاهد والعابد الفيلسوف” ، في هذا المبحث يقول عمارة : ” لم يسبق أن أقدم خليفة على رثاء أحد من العوام لم يشغل منصب في الدولة ” ،وإن شئت زد في القول كان خصماً سياسياً ومعارضاً للخليفة ، ومع هذا وقف الخليفة أبو جعفر المنصور على قبر أبى عثمان -عمر بن عبيد، وقال في رثائه :
صلى الإله عليك من متوسدَ
قبراً مررت به على مرّان
قبرا تضمن مؤمناً متحنفَ
صدق الإله ودان بالفرقان
لو أن هذا الدهر ابقى صالحاً
أبقى لنا حياً أبى عثمان
لم يكن هذا المتوسد في رثاء المنصور يملك أثناء حياته مالاً أو سلطة، أو حتى ينتمي لقبيلة من قبائل العرب ، وفي المقابل لم يكن هو العابد أو الزاهد الوحيد في مجتمعه ، كما أنه لم يكن يومها هو المثقف أو الفيلسوف الوحيد ، حتى نتحدث عنه اليوم كأحد العظام الذين سجلهم تاريخنا العربي في سجلات الخالدين إلى الأبد ، لكنه ببساطة كان يملك الموقف النقدي للواقع المتعلق بالسياسة والسلطة، لاسيما حين ينحرف المسار .
زيارة التاريخ في هذه المقاربة المعرفية لا تعني تقديم مادة ثقافية للقارئ فحسب، وإن كان ذلك أقل واجب يقع على عاتق من يمارس الكتابة ، بل تعد في وجه آخر قراءة سياسية فيما نحتاجه ونفتقده اليوم في اليمن، لاسيما داخل المناطق الخاضعة لسلطة الشرعية ، فالمسار ينحرف بشكل مخيف من قبل الحائزين على سلطة الشرعية وعلى قرارها ، كما أن الواقفين على باب السلطان = ( عطارين السلطة ) يمارسون دورهم في القربى بالقول والعمل على أكمل وجه ،
ما يمارس من حولنا هو إعادة تثوير ما كان قبل سنوات أسباب في ثورة 11/ فبراير ، وهذا يستدعي من الجميع احزاب ومثقفين وكتاب ومتكلميين في عالم السياسة وحتى قادة عسكريين الوقوف على باب الله وليس الوقوف على باب السلطان حتى لا تتبول الأجيال القادمة على قبورنا جميعاً حين تدرك بعد عقود من الزمن انها مازالت محتاجه إلى ثورة أخرى تصحح المسار ، كما أدرك ثوار 2011/ بعد سته عقود أن من حازوا وهيمنوا على مقاليد السلطة والحكم بعد ثورة 26/ سبتمبر 1962/م ، هم من اعاقوا مسار الثورة وسرقوا المشروع الثوري في اليمن الجمهوري رغم جسارة التضحيات المستمرة حتى اليوم ،
وحتى لا يكون ليلُنا الملبد بغيوم الممانعة حتى اللحظة، أشبه بالبارحة وينطبق بعد حين من الزمن علينا المثل القائل (وكأنك يابو زيد ما غزيت ) يتوجب علينا اليوم وليس غداً اتخاذ موقف نقدي معرفي تجاه ما يجري بكل شجاعة كما هو حال الواقفين على باب الله دائما ، أو بمعنى آخر كما هو حال طالبي مجد النبالة كما قال الكواكبي في طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد .