المواطن/ افق – مذكرات جارالله عمر
متـى بدأ جاد الله عمر العمل السياسي؟
بعد الثورة مباشرة بدأ نشاط حركة القوميين العرب والبعث ينتشر بين الشباب والجيل الجديد، حيث أخذ بعض زملائنا في المدرسة من المتقدّمين الذين لهم صلة بحركة القوميّين العرب والبعث يتسابقون لكسبنا، وكان أول من اتصل بنا هو الدكتور محمد عبد الملك العلفي (رئيس مصلحة المساحة حالياً) بالإضافة إلى الأستاذ أحمد العماد، كما كان هناك مَن يوزّع كتب الإخوان المسلمين، بالذات كتابات محمد قطب وسيد قطب، وشخصياً اتصل بي الأخ العميد محمد محرم في الجيش وأخبرني أنّ هناك تنظيماً باسم حركة القوميين العرب، وأنّه منتشر في كل الساحة اليمنية، وأفكاره قوميّة عربيّة وحدويّة، ولأنّ الناصرية كان لها صدى كبير وكان لصوت العرب تأثيراً كبير علينا، فضّلنا الانتماء إلى حركة القوميين العرب، وكان أول شخص أقابله من المدنيين هو الأخ/مالك الألباني حيث سلّمني له الأخ محمد محرم، والذي بدوره سلّمني إلى الأستاذ عبد الحافظ قائد رحمه الله. كان ذلك في نفس عام الثورة، ١٩٦٢، وقد انتظمتُ في حلقة حزبية مع عدد من الأخوة منهم الدكتور محمد عبد الجبار سلام ومحمد الفضلي وأحمد عبد الله الأنسي، حيث كوّنّا حلقة حزبية، وهذا الشيء كان بالنسبة إلينا شيئاً جديداً ومهمّاً، فقد كان يُشعرنا بالتميّز، لأنّنا “شيء” مختلف عن الناس العاديين، وكانت حركة القوميين العرب تتبنّى الدعوة إلى الوحدة القومية وعملية الدفاع عن الثورة في اليمن. وقد استمرّ هذا الوضع فترة من الوقت، وبدأنا بكسب زملاء جدد في المدرسة الإعدادية ومن زملائنا في المدرسة الثانوية، ومن بين الناس الذين اتصلنا بهم عبد الرزاق الرفيحي، الله يرحمه، والمحامي أحمد الوادعي وأحمد الشبيبي، وأثناء ذلك كنّا قد حاولنا إقامة اتّحاد للطلبة، وهو أوّل اتحاد للطلبة في صنعاء، حيث شارك في ذلك العديد من الإخوة من ضمنهم الأخ محمد الطيب، أحمد الوادعي، علي صلاح، أحمد الشبيبي، صالح الدوشان ومحمود الأشول وعدد كبير أيضاً.
من الأحداث الهامة التي حصلت أثناء دراستنا في كلية الشرطة كانت زيارة جمال عبد الناصر لمدينة صنعاء وقد أُخرج طلاب الكليات لاستقباله، واصطففنا في ميدان التحرير لاستقباله حيث ألقى يومها خطابه الشهيرفي كلّيّة الشرطة
وقد استغللنا فرصة تواجدنا في الاتحاد، وعملنا على توسيع نشاطنا في أوساط الطلاب لكسب أعضاء جدد إلى حركة القوميين العرب. بعدها بفترة فتحت كليات عسكرية وشرطية، وكان البعث والبعض من مسؤولي حركة القوميين العرب يتسابقون إلى استقطاب الطلاب وإلحاقهم بالكليات العسكرية. وفيما يخصّنا فقد أصدرت إلينا حركة القوميين العرب الأوامر للالتحاق بإحدى الكليتين إما الكلية العسكرية أو كلية الشرطة، فاخترت أنا وأحمد الأنسي ومحمد الفضلي كلية الشرطة، وانخرطنا في الكلية عام ١٩٦٥، فيما انخرط آخرون ومنهم الزميل محمد محرم، في الكلية العسكرية.
خلال عام ونصف العام درسنا على أيدي الخبراء المصريين منهجاً شرقياً يشمل العلوم القانونية، القانون الدستوري، القانون المدني وقانون الإجراءات، بالإضافة إلى بعض المواد الشرطية، وخلال التّيرم (الفصل) الأوّل تم اختبارنا وكنت متفوقاً فيه، ولذلك تمّت ترقيتي إلى رتبة طالب ضابط وتوليت قيادة إحدى السرايا، إلى جانب حمود وزيد عيسى، الذي كان الأول في دفعتنا، وعبد الله صبره وعيدروس السقاف وآخرين. ومن الأحداث الهامة التي حصلت أثناء دراستنا في كلية الشرطة كانت زيارة جمال عبد الناصر لمدينة صنعاء عام ١٩٦٥، وقد أُخرج طلاب الكليات لاستقباله، واصطففنا في ميدان التحرير لاستقباله حيث ألقى يومها خطابه الشهير، ثمّ ألقى الأستاذ محمد محمود الزبيري كلمته، وأتى بعد ذلك الأستاذ عبد الله البردوني، الذي ألقى قصيدة شعرية حماسية، كان من ضمن أبياتها التي لا تزال عالقة في ذاكرتي حتى اليوم تلك التي تقول:
من جمال ومن أسمي جمالا
معجزات من المدى تتوالى
وشموخاً يسمو على كل فكر
وكل قمة يتعـالى
يا لصوص العروش عيّبوا جمالاً
واخجلوا إنّكم قصرتم وطال
لقد حفظنا هذه الأبيات وشدّت معنوياتنا كثيراً، وفي غضون دراستنا كانت صنعاء تشهد بعض التفجيرات وأعمال العنف المتفرقة، كما كان الحصار يشتد من حولها بين حين وآخر، وكان القتال مشتعلاً بين القوات المصرية والجيش اليمني من جانب والقوات الملكية المؤيدة للإمام من جانب آخر، وكنا نكلّف بين حين وآخر بحراسة شوارع العاصمة ليلاً. وخلال السنوات الأولى لاندلاع الثورة حصلت أعمال عنف وعمليات قتل كثيرة طاولت بعض أنصار الإمام، وبسبب الأوضاع التي تحملها أية ثورة، قُتل الكثير من الوزراء والمسؤولين في عهد الإمام منذ الأيام الأولى للثورة، وبعضهم كان لا يستحق الإعدام، لكنّ الثورة دائماً تكون أشبه بسيل يجرف ما أمامه. واليوم ينظر الإنسان إلى تلك الإعدامات بشيء من الأسف، بل وينظر بأسف إلى كل الآثار التي ترتبت على أعمال العنف التي صاحبت الثورة، لكن منهج العنف كان سائداً في اليمن من قبل الثورة ومن بعدها، سواء من قبل الإمامة أو من قبل الثوار. وفيما يتعلّق بموقف المجتمع الصنعاني من الثورة والقضاء على الإمامة، كان الشباب المتعلم والمنخرط في الأحزاب السياسية يقف إلى جانب الثورة، ولكن كان هناك قسم كبير من أبناء صنعاء وفي خارجها يؤيد الإمام ولا يرحّب بالثورة. وفي الحقيقة كان هناك انقسام حقيقي في المجتمع، وإن كان يختلف من منطقة إلى أخرى، حيث كان التأييد للثورة كبيراً في مناطق تعز وعدن والمناطق الوسطى والمناطق الشرقية، لكنْ في المناطق المحيطة بصنعاء كان التأييد للثورة يقتصر على بعض أبناء المشايخ، الذين كانوا قد دخلوا في صدام مع الإمام، حيث ساهم بعضهم في الثورة، بالإضافة إلى بعض الضباط الذين انخرطوا في الجيش.
أمّا سائر المواطنين في المناطق الشمالية، وحتى بعض المواطنين في المناطق الوسطى، فلم يكونوا يؤيدون الثورة تلقائياً، لكن الأمور كانت تتغير بين يوم وآخر.
عبد الله السلال ودور المصريين
المشير عبد الله السلال كان رجلاً عسكرياً وطيب القلب وتلقائياً، كما كان مخلصاً للثورة، واضطلع بأعباء كبيرة أثناء الحرب الأهلية وقيادة المعارك، وكان يتمتع برباطة جأش لأنّ المعارك كانت مستعرة في كل مكان تقريباً، ولا أظن أحداً كان يستطيع القيام بالدور الذي قام به السلال، لأنّ الحرب والمعارك ضد الملكيين كانت هي القضية الأساسية، إذ لم يكن هناك في الحقيقة أية اهتمامات أخرى لا في مضمار التنمية ولا في أي مجالات أخرى.
وبطبيعة الحال، فقد بدأت تظهر بعد عام، أو عام ونصف العام، انقسامات داخل الصف الجمهوري، وكان العديد من شيوخ القبائل والسياسيين يعارضون سياسة المشير السلال، غير أننا في حركة القوميين العرب كنا مناصرين للسلّال وللوجود المصري في اليمن، وقد شاركنا تحت قيادة الحركة في العديد من المظاهرات المؤيدة للرئيس السلال والمصريين. كان العديد من السياسيين، وبالذات الذين لهم صلة بالبعث، يعارضون السلال، بالإضافة إلى بعض الأحرار القدامى، مثل الشهيد محمد محمود الزبيري، وأحمد محمد نعمان وعبد الرحمن الإرياني، وقد كان خلاف الرئيس جمال عبد الناصر مع البعث في سورية والعراق يلقي بظلاله على الأوضاع في اليمن، كما انه كانت هناك أخطاء يرتكبها بعض الضباط المصريين في أدائهم اليومي، والتدخل في تفاصيل الحياة اليومية، وهذه كانت تؤثر سلباً على وحدة الصف الجمهوري.
لكنّني أريد هنا أن أسجّل شهادة للتاريخ، وأقول إن الوجود المصري في اليمن، قد ساهم الى جانب مشاركتهم في الحرب في خلق نواة الإدارة لأول مرة في اليمن، كما ساهم في انتشار التعليم الإعدادي والثانوي بمناهجه الحديثة، وكان هذا عملاً تحديثياً وحضارياً، كانت اليمن بحاجة إليه، لأن التخلف كان شاملاً ومتمكناً من كل حياة اليمن.
من المآخذ التي كانت تؤخذ على الرئيس السلال أنّه اعتمد على المصريين إلى درجة أنّ البعض كان يقول إن القرار السياسي اليمني كان يُتخذ في القاهرة وليس في صنعاء. وهذا صحيح، فالمشير عبد الله السلال اعتمد كثيراً على المصريين، ولكنني أعتقد بأنه كان سياسياً واقعياً، فقد كان يدرك أنه لولا التأييد المصري للثورة، فإنها كانت سوف تسقط في عامها الأول، أو الذي يليه، وبدون الوجود المصري ما كان للثورة أن تستمر، ولذلك كان البديل للوجود المصري هو تسوية مبكرة مع المملكة العربية السعودية ومع القبائل المحيطة بصنعاء، وهذا ما حدث بعد ذلك، ونحن جميعاً يعرف نتائجه. وإذا ما نظرنا إلى تعامل السلال مع القبائل المحيطة بصنعاء والتي كان يعتقد أنّها كانت السبب في وقوع العديد من الانتكاسات للثورة، فأنا أعتقد أن هذا أمر كان يعبّر عن حالة واقعية، وإذا عدت إلى تاريخ اليمن منذ ألف عام، فستجد أن القبائل كانت تصعّد إماماً وتُسقط آخر طبقاً للمصالح.
وقد لعبت القبائل دوراً كبيراً في عدم الاستقرار، وحالت دون أن تنتقل السلطة سلمياً في أي وقت من الأوقات، وكانت الغنيمة هي الأساس في كل ما حصل، وما حدث بعد الثورة لم يكن استثناءً لهذه القاعدة، إلّا من حيث وقوف بعض القبائل إلى جانب الثورة، فمثلاً قبيلة حاشد وقفت إلى جانب الثورة لأن الإمام كان قد قتل مشايخها، وأعدم حسين بن ناصر الأحمر وأخاه حميد، أمّا بقية القبائل، فقد كانت ذات مواقف متنقلة بحسب المصلحة وبحسب تأثير المشايخ، وبحسب الظروف القائمة. بمعنى آخر، لم تكن القبائل تحارب عن عقيدة أو عن اقتناع لا مع الإمام ولا مع معارضيه، طوال التاريخ.
أمّا دورنا في الأحداث التي أدّت إلى الانقلاب على الرئيس عبد الله السلال، قبل نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٦٧، فقد كنا قد تخرجنا من كلية الشرطة، ثم تم تعييننا كمدرّسين فيها، وكلفتنا حركة القوميين العرب بالنشاط في صفوف ضباط الشرطة والطلاب الملتحقين بالكلية، وقد استطعنا كسب عشرات الضباط في الشرطة. وكان هناك عدد من الضباط المصريين يدرسون في الكلية، ولاحظوا علينا هذا النشاط، وبدأوا يتوجسون منه، ويشكّون بانضمامنا إلى حركة حزبية، وكان الاتجاه المعمّم في أوساط الوجود المصري في اليمن، عسكريين ومدنيين على السواء، هو مناهضة الحزبية، وعندما أيقنت الاستخبارات المصرية واليمنية أنّنا منخرطون في حركة القوميين رغم أنّ عملنا كان سرياً، تم طردنا من كلية الشرطة.
وصادف في تلك الفترة أنّ الخلاف بين حركة القوميين العرب ومصر أخذ يظهر بالتدريج بسبب الأوضاع السائدة في جنوب اليمن، والاختلاف القائم بين جبهة التحرير والجبهة القومية، فبينما كانت حركة القوميين العرب تؤيد الجبهة القومية كانت بعض الأجهزة المصرية تتبنى جبهة التحرير، وتعمل من أجل دمج الجبهة القومية بمنظمة التحرير لتكون ما عُرف بعد ذلك “جبهـة التحرير”، وكانت الكوادر الأساسية في الجبهة القومية وفرع الحركة في صنعاء تعارض مثل هذا الدمج، وتعتقد أنّ الجبهة القومية هي صاحبة السبق في الكفاح المسلح، وينبغي لها أن تستمرّ. ومن هنا بدأت الشكوك تحيط بنا، فتم إبعادنا من سلك الشرطة إلى التموين المدني، ولكنّنا لم نعمل في التموين، لأنه كان مغلقاً، ولم يكن هناك موظفون ولا مكاتب للعمل، وكان يديره حينها الأستاذ علي السنيدار، رحمه الله، لوحده وبعد فترة من الوقت ووساطات عديدة عدنا إلى كلية الشرطة، وساهمنا في حرب بني حشيش، حيث كنا من الضباط الذين خرجوا إلى هناك وأقمنا معسكراً لفترة، ثم عدنا من جديد إلى صنعاء، وفصلنا من الشرطة من جديد.
بالنسبة إلى النشاطات السياسية التي كنا نقوم بها، ودفعت السلطات إلى فصلنا من الشرطة، فقد كانت هناك نشاطات كثيرة كلفتنا بها حركة القوميين العرب، كما أنّنا كنا نبادر أحياناً بنشاطات أخرى، وقد ساهم كل ذلك في إلقاء الأضواء على تحزّبنا أو على الأقلّ وضع علامات الاستفهام حول ذلك حيث كان يُفترض بنا كضباط في الشرطة عدم القيام بأية أعمال ذات طابع سياسي.
لقد كنا خلافاً لذلك، نشارك في المظاهرات المختلفة، وفي كثير من الأحيان كنّا نخرج بملابس مدنية للمشاركة في هذه المظاهرات، وكانت هذه المظاهرات تناحر بالطبع النظام الجمهوري والرئيس السلال في مواجهة خصومه ومعارضيه، كما كنا نتبنى قضية الجبهة القومية في كل المحافل، وكنا نبدو كمجموعة متجانسة من خلال خطابنا السياسي وعلاقاتنا الاجتماعية بالناس وقد أكدت هذه النشاطات المنظمة أنّ مجموعة حركة القوميين العرب كانت تضمّ أناساً غير عاديين، ولهذا تم التصدي لهذه النشاطات.
حراسة عبد الفتاح إسماعيل
كان عبد الفتاح إسماعيل قد اعتقلته المخابرات المصرية، كما اعتقلت أيضاً أنور خالد الذي كان يومها رئيس مؤتمر الخريجين، وأحد زعماء الجبهة القومية، وتم إيصالهما إلى صنعاء وأودعا الأمن المركزي كمعتقلين، وكان حينها المرحوم علي الواسعي قائداً لقوات الأمن المركزي، فيما كان حسين الدفعي وزيراً للداخلية.
وكانت حياة عبد الفتاح إسماعيل وأنور خالد معرّضة للخطر، على الرغم من أن حكومة السلال، وفيها عبد الغني علي، الله يرحمه، ومجموعة من أعضاء الاتحاد الشعبي كانت تتعاطف مع عبد الفتاح، غير أن القوات المصرية كانت ضده. وكان أنصار جبهة التحرير حينذاك يتواجدون في صنعاء.
في تلك الفترة تمّ تكليفنا من حركة القوميين العرب بحراسة عبد الفتاح إسماعيل وأنور خالد، وقد كنا نقوم بحراستهما ونحن بملابسنا العسكرية، وكنا قد نسّقنا مع الأخ علي الواسعي ليمكّننا من الجلوس والخروج معهم عندما يرغبون في الذهاب إلى أيّ مكان، وعلى ما أذكر، فإن من بين الذين تولّوا هذه المهمة الأخ محمد عبد السلام منصور وناصر السعيد. وذات يوم تعرّض عبد الفتاح لوعكة صحية، ونُقل إلى المستشفى، ولاحظنا أنّ إحدى السيارات كانت تطاردنا في الطريق وتراقب حركاتنا، وعلى ما أتذكر فقد نزلنا يومها في أحد الفنادق القريبة من شارع جمال عبد الناصر، وبعد لحظات جاءت مجموعة مسلّحة، وبدأوا يسألون عن عبد الفتاح إسماعيل، وكان واضحاً انهم يستهدفون اغتياله مع أنور خالد، فانتصبنا، ونحن بملابسنا العسكرية، وقلنا لهم إننا مرافقون رسميون مع هؤلاء، وأشرنا إلى عبد الفتاح بالهروب من الباب الآخر للفندق، ثمّ عدنا إلى الأمن المركزي.
. هل كانت لنا صلة مباشرة بعبد الفتاح إسماعيل قبل ذلك؟
لا، نحن تعرفنا إليه في السجن، لكن حركة القوميين العرب وقيادتها في صنعاء، من بينهم عبد الحافظ قائد، سلطان أحمد عمر، أحمد قاسم دماج، علي سيف مقبل، عبد القادر سعيد هادي، عبد الرحمن محمد سعيد، مالك الأرياني كانوا على صلة بالموضوع وبمشكلة عبد الفتاح إسماعيل. وكان كثير من المثقفين اليمنيين يزورون عبد الفتاح في سجنه بصنعاء ويدافعون عنه، وقد أدّى هذا كله في النهاية إلى إطلاق سراحه هو ورفيقه انور خالد. وقد أثنت حركة القوميين العرب على دورنا في هذه المهمة، واعتبرته دوراً ممتازاً، لأننا أفشلنا خطة مؤكدة لاغتيال عبد الفتاح الذي كان يومها واحداً من أهم رموز الثورة في الجنوب، لكن هذه المهمة كانت قد كشفت نشاطنا السياسي بشكل أكبر.
وعبد الفتاح إسماعيل لم يُعتقل في صنعاء بالذات، بل اعتُقل في منطقة قريبة من ماوية بتعز، وقد أتت به المخابرات المصرية إلى صنعاء باعتبارها العاصمة، بهدف التحقيق معه في قضية المرحوم علي حسين القاضي، وكانت القوات المصرية تدرك أنّ هناك خلافاً بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، كما كانت المخابرات المصرية قد وجدت مسدساً يحمل رقماً مسجّلاً باسم شخص في الجبهة القومية. وكان قد ألقي بعد ذلك القبض على المرحوم فيصل عبد اللطيف الشعبي، المؤسس الأوّل لحركة القوميين العرب، والقائد البارز في الجبهة القومية، حيث قُبض عليه في أطراف محافظة لحج، ثم أُرسل إلى القاهرة، وكانت سياسة اعتقال قادة الجبهة القومية ومضايقتهم سياسة متّبعة في تلك الأيام من قبل القوات المصرية، وقد حاولت حركة القوميين العرب حلّ هذا الموضوع بالتفاوض مع عبد الناصر، لكنّ النجاح كان محدوداً، إذ لم يكن هناك إمكانية للجمع بين الطرفين. بالنسبة إلى عبد الفتاح، بعد الإفراج عنه في صنعاء أعتقد أنه سافر إلى الخارج وبالتحديـد إلى المجر، ثم عاد بعد ذلك، وعند نشوب الحرب الأهليّة في عدن قبل الاستقلال كان متواجداً في مدينة الإسكندرية بمصر، وقد عُيّـن بعد ذلك عضواً في الوفد الذي قاد مفاوضات الاستقلال مع الوفد الإنكليزي في جنيف.
انقـلاب ٥ نوفمبر ١٩٦٧
سبق أن أوضحت أنه كانت هناك معارضة دائمة لعدد من الشخصيات اليمنية ضد السلال، تضم بعثيين ويساريين وشيوخ قبائل، وعلى رأس هؤلاء القاضي الأرياني والزبيري والنعمان. وبعد ذلك جاءت تطورات كثيرة، كان من ضمنها اتفاقية السلام مع السعودية ومؤتمر حرض، وكانت هناك محاولات لحلّ المشكلة اليمنية، لكنها لم تنجح، فاضطربت العلاقة بين مصر واليمن من جديد، وكانت مصر يومها قد اقتنعت بسحب المشير السلال إلى القاهرة، فذهب الأخير إلى هناك فتولى محمد الرعيني وبعده العمري القيادة هنا في صنعاء. لكنّ المصريين أعادوا السلال إلى اليمن عام ١٩٦٦ وكانت الحكومة بطبيعة الحال مكوّنة من معارضي السلال وبرئاسة العمري. ومن الطرائف أنّ أعضاء الحكومة ذهبوا إلى مصر مع مجموعة من ضباط الجيش في محاولة لطرح المشكلة على الرئيس جمال عبد الناصر، فصدرت الأوامر باعتقالهم جميعاً في القاهرة، بمن فيهم النعمان، باستثناء القاضي عبد الرحمن الأرياني، الذي أُنزل في منزل خاص، فيما قبع الجميع في الزنازين، وكان هذا خطأً سياسياً فادحاً، يخلو من الذكاء السياسي ومن الفطنة ولا معنى له طبعاً في حكومة السلال التي تشكلت، بعد ذلك حصلت مقاومة، وبعد هذه المقاومة جرت محاكمات وإعدامات ومن ضمن الذين أُعدموا المرحوم محمد الرعيني وهادي عيسى وآخرون، وكان هذا جزءاً من الصراع الذي كان دائراً داخل الصف الجمهوري نفسه.
كانت القوى التي نفّذت الانقلاب على السلال مزيجاً من الثوار الجمهوريين والقوى التقليدية ومن الحزبيين أيضاً، ولكنها غير متماسكة
الانقلاب على السلال: نقاوم أم لا نقاوم؟
بعد هزيمة يونيو/حزيران ١٩٦٧ رحلتْ القوات المصرية من اليمن، وكانت سبقـت انقلاب ٥ نوفمبر/تشرين الثاني ١٩٦٧ في صنعاء مظاهرات في شهر أكتوبر/تشرين الأول ضد السلال، وفـي مؤتمر القمة الذي عُقد في الخرطوم عقب هزيمة ١٩٦٧ اتفق الطرفان المصري والسعودي على انسحاب القوات المصرية من اليمن، على أن توقف السعودية دعمها للملكيين، وبعد ذلك تم إطلاق سراح المعتقلين في القاهرة وعادوا إلى اليمن.
وبعد عودة الجميع إلى صنعاء قام الرئيس السلال بزيارة إلى العراق والاتحاد السوفياتي، واصطحب معه نائبه اللواء عبد الله جزيلان، وعندما ودّع السلال مودعيه في مطار صنعاء قال لهم كلمات توحي بأنه ذاهب إلى العراق وأنّ الأمر متروك لهم، وأنّ الجمهورية في أعناقهم. وكان العائدون من القاهرة قد أخذوا يعدّون للانقلاب ضد السلال، لأنه لم يعد هناك إمكانية للمصالحة بين الخصوم، وهذا ما ينعكس في الواقع حتى اليوم.
والمصالحة كانت ممكنة، كان بإمكان الأطراف كلهم تشكيل ائتلاف، لأنهم كانوا في مواجهة خطر خارجي، وأن يتم تصالح وتفاهم واعتذار متبادل، والعمل من أجل إنقاذ البلاد، لكن للأسف كان موضوع الصراع على السلطة له الأولوية، حيث بدأ التحضير والإعداد للانقلاب يجري بصورة علنية منذ منتصف شهر أكتوبر/تشرين الأول ١٩٦٧.
وكان موقف حركة القوميين العرب التي ننتمي إليها ضد الانقلاب على السلال، كما كان الشباب المؤيد لمصر والناصريين وبالذات في تعز معارضين للانقلاب، واتحاد الشعب الديمقراطي كان يعارض هذا الانقلاب، لكن البعث وبقية القوى السياسية وبعض الضباط والمشايخ، كانوا مؤيدين للانقلاب على السلال. وأذكر أنّنا في حركة القوميين العرب ناقشنا هذا الموضوع عند إبلاغنا بموعد الانقلاب بيوم واحد وأنه صار أمراً محتماً لا مفرّ منه، وقد عرفنا ذلك من خلال مجموعة من الضباط كانت تنتمي إلى الحركة، حيث أصدروا لهم الأوامر بالاستعداد فاتخذنا قراراً بمقاومة الانقلاب، وهذا الشيء يقال لأول مرة.
وقد اتخذ القرار إثر اجتماع عُقد في منزل المرحوم علي قشعة في صنعاء، وهو من أبناء صنعاء، وكان عضواً قيادياً في حركة القوميين العرب، واتُّخذ هذا القرار بحضور عدد من قادة الحركة، أتذكر منهم عبد الله الأشطل ومالك الأرياني، أمّا عبد الحافظ قائد فقد كان يومها في الحُديدة، وسلطان أحمد عمر في عدن، وعبد القادر سعيد في تعز. وقد اشترطنا في هذا الاجتماع لكي نقاوم الانقلاب، أن يكون هناك استعداد من قبل أنصار السلال للوقوف إلى جانبنا، وهكذا قرّرنا الاتصال ببعض الشخصيات من المشايخ والضباط المناهضين للحركة الانقلابية والمؤيدين للسلال، وكان من بين هؤلاء المرحوم مطيع دماج والمرحوم أحمد عبد ربه العوافي والشيخ أمين أبو رأس عن طريق الأخ أحمد قاسم دماج، كما قمنا بالاتصال بقائد الحرس الجمهوري العقيد القواس، وأعطينا تعليمات لبعض الضباط المنتمين للحركة بمحاولة الوصول إلى بعض الوحدات العسكرية قبل أن يصل الانقلابيون إليها. وكان القواس قد أبدى استعداداً للعمل لكنّ الحرس الجمهوري كان قد تعرض للتفكك بعدما اتصل مشايخ القبائل كلّ بأصحابه.
ولعب الشيخ أحمد علي المطري، الله يرحمه، دوراً كبيراً في الاتصال ببعض منتسبي الحرس من أبناء بني مطر، كما جرى الاتصال أيضاً بالقواس، وقال له إن المقاومة لن تنجح. لقد كانت القوى التي نفّذت الانقلاب على السلال مزيجاً من الثوار الجمهوريين والقوى التقليدية ومن الحزبيين أيضاً، ولكنها غير متماسكة، فما كان يجمعها في الانقلاب هو الرغبة في عملية التخلص من السلال. كان الذين ينتمون إلى ثورة سبتمبر ومن ينضوي تحت لواء حزب البعث يرون في الانقلاب نوعاً من أنواع التصحيح للثورة سيخلق تماسكاً في الصف الجمهوري وسيفتح آفاقاً أكبر للتطور. أما القوى التقليديّة فكانت تريد أن تعود بالثورة إلى الوراء، وأن تنتزع السلطة من أيدي القوى الحديثة وتسيطر على النظام، وصولاً إلى التخلص من الصف الجمهوري والحزبي في أقرب فرصة، وهو ما حدث فعلاً بعد الانقلاب.
وعن سبب تراجعنا في اللحظات الأخيرة عن مقاومة الانقلاب، فقد اجتمعنا في الساعة الحادية عشرة من مساء ٤ نوفمبر/تشرين الأول قبل الانقلاب بساعات قليلة واستعرضنا الوضع من جديد ومدى قدرة قوّاتنا على التصدّي للانقلاب، ومدى قدرة المشايخ المؤيدين للسلال على إيصال بعض القبائل إلى صنعاء، في الوقت المناسب، فوجدنا الإمكانيات ضعيفة، وأنّ الوقت كان قد تأخر، خصوصاً بعدما ذهب ناصر السعيد وعبد الكافي عمر إلى قوات المدرعات ووجدوا أنّ الضباط المناوئين للسلال قد سبقوهم إلى نفس المكان. ولهذا اتخذنا قراراً عند الساعة الحادية عشرة والنصف بالامتناع عن مقاومة الانقلاب والاكتفاء بمقاومته سياسياً، كما قررنا أن يختفي بعض القادة البارزين حتى لا يتعرضوا للاعتقال.
أمّا بخصوص التظاهرات التي سبقت الانقلاب، فقد قمنا بتنظيم مظاهرة يوم الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، بهدف الدفاع عن الثورة وتأييداً للرئيس السلال. لكنّ هـذه التظاهرة كانت في الواقع قد أسهمت في إضعاف نظام السلال، ومهّدت لانقلاب ٥ نوفمبر، سواءٌ أردنا ذلك أم لم نرد، خصوصاً أنّ المظاهرة أدّت إلى تغيير الحكومة وإلى اعتقال بعض من أنصار السلال وبعض الضباط، من ضمنهم عبد القادر الخطري الذي حوكم بعد ذلك، بتهمة إطلاق النار على المتظاهرين يوم ٣ أكتوبر، باعتباره كان يقود الأمن المركزي. لكنّني، وهذه شهادة للتاريخ، أريـد القول إن العقيد الخطري لم يطلق النار على المتظاهرين إطلاقاً، وقد حُكم عليه ظلماً، لأن الخطري كان محسوباً على المصريين وكان قد دخل في صراعات مع بقية الجماعات، ولذلك اعتُقل وحوكم بتهمة التصدي للمتظاهرين وإطلاق النار عليهم.
. هل قامت حركة القوميين العرب باتصالات مع الرئيس السلال وأبلغته وقوفها إلى جانبه؟
لا لم تقم الحركة بذلك، لأن السلال كان في زيارة إلى بغداد وكان الاتصال به غير ممكن، وقد كان آخر لقاء للحركة بالرئيس السلال في ٣ أكتوبر، يومها قابلنا السلال وتحدثنا معه حول الأوضاع، وفي نفس اليوم أقال الحكومة وعيّن حكومة جديدة.
ونحن وإن ساهمنا في تظاهرة أكتوبر بنوايا حسنة، لكن موضوعياً أدّت هذه المظاهرة إلى التسريع بوقوع الانقلاب على السلال.
وبخصوص التّهم الموجّهة للرئيس السلال، فهي أنه قام، بمعاونة المصريين، بتصفية الكثير من العناصر الثورية. أنا لا أتصوّر أنّ الرئيس السلال يتحمّل مسؤولية في هذا المجال، لقد كانت الحرب تؤدي تلقائياً إلى ممارسة العنف هنا وهناك، فالصراع بين الملكيين والجمهوريين حصد عشرات الألوف من الضحايا، كما أنّ الصراع داخل النظام الجمهوري قد أدّى إلى سقوط ضحايا أيضاً. لقد ألحقت هذه الصراعات باليمن ضرراً بالغاً وأوقفت عملية التنمية، وسخّرنا كل جهودنا للصراع السياسي العنيف، ولو لم نفعل ذلك لكانت حياتنا اليوم أفضل.
حصار صنعاء
استمرّت الأوضاع بعد الانقلاب في توّتر وقلق دائمين، ويومها كان الأستاذ محسن العيني رئيساً للحكومة، وكان الملكيون من جانبهم يعدّون العدّة للاستيلاء على صنعاء. وفي بداية ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه كنت في الحديدة، وحاولت العودة إلى صنعاء، فقيل لنا إن طريق الحديدة – تعز قد قُطعت، وطلب منا الذهاب إلى جانب القوة هناك لفكّ الطريق، وقد استقبلنا قائد القوة عبد العزيز البرطي ومجموعة من الضباط المتواجدين هناك، وفي غضون أسبوع تم فتح الطريق واستعادة الأمن في المنطقة. بعد أيام، بثّت إذاعة صنعاء خبر استقالة الأستاذ محسن العيني وتكليف الفريق حسن العمري بتشكيل الحكومة وقيادة القوات المسلحة. وعلمنا بعدها أنّ طريق صنعاء الحديدة قد قُطعت، فعدنا إلى الحديدة وركبنا طائرة أنتينوف كان يقودها الطيار الكميم ويرافقنا الشهيد عبد السلام الدميني، وكان المطار يومها آمناً لهبوط الطائرات.
وكان طلاب كلية الشرطة والعديد من الضباط موجودين في مطار الرحبة ومكلفين بالدفاع عنه، وحدث أن حصل خلاف بين الطلاب الذين كان معظمهم ينتمي إلى حركة القوميين العرب ثم إلى الحزب الديمقراطي الثوري بعد ذلك. وكان يومها العميد يحيى الراذعي ومحمد خميس يقودان طلاب الكلية في المطار، فتمرّد عليهم الطلاب، ما حتّم استدعاءنا إلى وزارة الداخلية من قبل العميد عبد الله بركات، مع مجموعة من الزملاء، وطلب منا العودة إلى عملنا، على الرغم من أنّنا كنا مفصولين من الشرطة، والذهاب إلى المطار ضمن القيادة الجديدة التي تشكلت لقيادة طلبة كلية الشرطة، وتكونت من العميد حسين صالح الخولاني، وعلي الحيمي، وعلي الواسعي، وعبد الله يحيى الشامي، وعبد الله محمد العلفي، ومحمد البردي، وعبد الرحمن البردي، ومحمد الأنسي وجاد الله عمر وعدد آخر من الضباط لم أعد ـتذكّرهم.
وعند انتقالنا إلى المطار كان الحصار على المدينة قد استُكمل بعد انسحاب قوات المظلات من متنة والمناطق المجاورة لها بفرض تكوين دفاعات حول العاصمة. بعد الحصار وجدت صنعاء نفسها معزولة عن كل مناطق اليمن، وأدّى هذا الحصار إلى خلق جبهة وطنية عريضة، انخرطت فيها سائر القوى الوطنية في المعركة.
صحيح أنّ وحدات الجيش والمقاومة الشعبية كان لها الدور الأساسي في فك الحصار عن صنعاء، لكن بقية فئات المجتمع لعبت دوراً كبيراً في المعركة بما في ذلك سكان العاصمة صنعاء. كما وحّد الحصار صفوف القوى والأحزاب المختلفة، بما فيها حزب البعث والحزب الديمقراطي فيما بعد، والماركسيون أيضاً بقيادة عبد الله صالح عبده، حيث كوّنوا المقاومة الشعبية لحماية العاصمة وللإشراف على توزيع المؤن على السكان، ومن أبرز قادة المقاومة الشعبية يحيى الشامي، سيف أحمد حيدر، مالك الأرياني، عمر عبد الله الجاوي، علي مهدي الشنواح وغيرهم. وقد تناسى الجميع في تلك المحنة خلافات الماضي كله، وتوجهوا جميعاً لخوض المعركة، وقد كانت حماسة الناس لفك حصار صنعاء كبيرة عند الجميع، وفي الحقيقة لم يكن أمام المحاصرين سوى القتال حتى آخر لحظة.
النجدة من الجنوب ومن السوفييت
ظلت صنعاء تقصف لمدة شهر تقريباً، وبعدها اعتاد الناس على القصف وكيّفوا حياتهم عليه، وكانت المعارك لا تتوقف حول صنعاء كافة، فيما كان الشيخ سنان أبو لحوم يعمل على توفير الدعم للعاصمة عن طريق الطائرات قبل أن يُنسف المطار ويُدمّر. وكان للأخ محمد الأرياني وللشيخ أحمد عبد ربه العوافي دور كبير في حشد المقاتلين من المناطق المختلفة والهجوم لفك حصار صنعاء العاصمة، وكان الدور القيادي لحسن العمري وعبد الرقيب عبد الوهاب. كما أنّ الدعم القادم من الجنوب كان أحد العوامل التي أدّت إلى النجاح في فك الحصار عن صنعاء. فبعد استلام الجبهة القومية للحكم في الجنوب عملت على إرسال المساعدات من الذخائر والمواد الغذائية للمقاومة الشعبية، وكان المرحوم سعيد عبد الوارث الإبي على رأس الذين كانوا يأتون لتسليم هذا الدعم مع مناضلين آخرين.
وكان هناك دعم خارجي أيضاً، فقد وقفت روسيا إلى جانب النظام الجمهوري وأرسلت طائرات إلى الحديدة، وشاركت هذه الطائرات في المعارك وخصوصاً المعارك الليلية، وأذكر أنّ أحد الطيارين الروس سقط في منطقة جحانة. كما أذكر أنّه في إحدى الليالي استطاع الملكيون اختراق صفوف النظام الجمهوري ووصلوا إلى باب شعوب، وتجاوزوا قرية الدجاج، لكن سلاح الطيران الروسي انطلق ليلاً من الحديدة وقصف القوات الملكية في المناطق التي احتلوها، وبالذات قواعدها الخلفية في جبل الطويل، ما أرغمهم على التراجع. وفي مجال الدعم الخارجي، كان هناك أيضاً دعم من سوريا بإرسالها عشرة من أفضل طياريها، وقدمت الجزائر دعماً بمليون دولار، فيما أرسلت مصر كميات من الذخائر والمواد التموينية عن طريق الحديدة.
كل هذه العوامل أسهمت في فك الحصار عن صنعاء، وبطبيعة الحال فإن هذا الحصار أدّى إلى خسائر كبيرة في صفوف الجميع، وإذا كنا اليوم نشعر بالاعتزاز والفخر لمشاركتنا في هذه المعركة وانتصارنا فيها فإننا نشعر أيضاً بالأسف لسقوط الضحايا من الطرفين، ونستطيع القول إنّ الإنسان كان يتمنى ألّا تحدث المعركة، لكن التاريخ ليس فيه “لـو”.
الصراع داخل الصف الجمهوري
أحداث أغسطس/آب ١٩٦٨ هي “مأساة جمهورية”، وهي تدلّ على أنّ العنف عندما يسود المجتمع يتحوّل إلى قانون يستخدمه طرف ضد طرف آخر، ثمّ يستخدمه الطرف ضد بعضه.
كان هناك قتال وصراع بين الجمهوريين والملكيين، ثمّ كان هناك قتال وصراع داخل الصف الجمهوري وصراع داخل الصف الملكي، وأحداث أغسطس ١٩٦٨ ذات دلالة على عدم النضج السياسي وسيادة العاطفة والرغبة الثورية المتأججة في تحقيق الانتصار بالقوة، كما أنّها صراع على السلطة أيضاً، كانت معركة حصار صنعاء قد أدّت إلى بروز قوى حديثة تمثّلت في المقاومة الشعبية وفي القادة العسكريين الشباب، الذين تولّوا قيادة الوحدات العسكرية من أمثال عبد الرقيب عبد الوهاب، عبد الرقيب الحربي، علي متن جبران، محمد صالح فرحان، حمود ناجي سعيد، وقد أدّى ذلك تلقائياً إلى ما يمكن اعتباره ازدواجية في السلطة بين القوى الجديدة “المقاومة الشعبية” وبين أجهزة السلطة الأخرى المختلفة.
هذه الازدواجية كانت مدعّمة بخلفيّة فكريّة وسياسيّة، فقد كان البعث يقف في جانب وحركة القوميين العرب واليسار عموماً يقف في جانب آخر. وتداخلت في هذا الموضوع عوامل مختلفة، منها جغرافية ومذهبية. لقد كنّا نحن الضباط الصغار متحمسين، سريعي العاطفة، أقل صبراً وأكثر طموحاً، وكان الصـفّ الباقي من الضباط الكبار لا يطيقون نزق هذا الجيل الجديد، ويتوجّسون خيفةً من اندفاعاتهم، ودخلت القوى والاتجاهات السياسيّة لتخلق استقطاباً في هذا الأمر، ودخلت قضية التعامل مع الملكيين مادّة جديدة في الصراع، فقد كان السياسيون الذين في الحكم يعملون من أجل التفاهم والمصالحة مع بقايا الصف الملكي المهزوم ويمدّون صِلاتهم مع بعض المشايخ، أمثال قاسم منصر. وكانت هناك مكاتبات مع بعض هؤلاء المشايخ للعودة، مع استبعاد أسرة آل بيت حميد الدين، بالإضافة إلى اتصالات مع السعودية بغرض الوصول إلى حلّ سلميّ للمشكلة، خصوصاً بعدما حسمت معركة صنعاء، وكان الطرف الجمهوري المتشدّد، الذي تمثّله حركة القوميين العرب واليسار عموماً وصغار الضباط في الجيش والشرطة يرفضون هذه الاتصالات، ويعتبرونها عملاً معادياً للنظام الجمهوري.
نشب هذا الصراع بعدما تأكد أنّ الطرف الملكيّ قد هُزم، فصار الصراع على السلطة يتحكّم بسلوك القوى السياسية المختلفة. واشتـدّ هذا الصراع بعدما شعرت القوى التقليدية بأنّ القوى السياسيّة الجديدة صارت تهدّد بقاءها في السلطة. وجاءت قضية الدبابات السوفياتية لليمن لتثير أزمة إلى أين ستذهب، ففيما كان عبد الرقيب عبد الوهاب يريدها أن تصل إلى الأركان في صنعاء، كان الفريق حسن العمري يريد أن تبقى الدبابات تحت سيطرته. وتدخلت المقاومة الشعبية في الموضوع، لكنّ مقر المقاومة في الحديدة ضُرب من قبل سلاح المدرعات، وتلى ذلك قرار حلّ المقاومة الشعبية، وبعدها أصدر الفريق حسن العمري قراراً بإعفاء علي مثنى جبران، قائد سلاح المدفعية، وأحد أبطال معركة فك الحصار عن صنعاء من منصبه، وهنا بدأت الأمور تتّخذ منحى آخر.
كانت القوى الجديدة تريد الدفاع عن مواقعها، على اعتبار أنّها لعبت دوراً رئيسيّاً في فك الحصار، وأنّ من حقّها المشاركة في القرار السياسي، وأنّ تُستشار في كل الأمور. وكانت القوى الأخرى ترى أنّ هؤلاء شباب متطرفون وأنّ دورهم بعد الآن سيكون ضاراً ولا بد من تصفيتهم. وأعترف اليوم بأنّنا كنّا نحن الشباب حينها نفتقر إلى القدر الكافي من التجربة والحكمة والعبَر، فقد كان الكثير من الصف الآخر الذين اختلفنا معه حلفاء لنا. كما لعب الصراع الذي كان قائماً بين حركة القوميين العرب وحزب البعث دوراً كبيراً في هذه العملية.
وكما هو معروف، فقد نشبت معركة كبيرة داخل صنعاء يومي ٢٣ و٢٤ أغسطس/آب ١٩٦٨ حيث تمكنت القوى التقليدية من هزيمة القوى الجديدة، وحسمت قضية ازدواجية السلطة لصالحها. وتمّ اعتقال أعضاء حركة القوميين العرب واليسار بالإضافة إلى ممثّلي الفئات الرأسمالية، مثل أحمد شمسان، وسلام علي ثابت وآخرين، فيما أرسل عدد آخر من الضباط إلى الجزائر، وكان هذا الحسم يؤدّي إلى صراعات لاحقة. ولوحق بعد ذلك أعضاء الحزب الديمقراطي الثوري، الذي كنا شكّلناه في العام ١٩٦٨ وهرب عدد كبير من هؤلاء إلى المناطق الريفيّة وعدن.
. من كان الخاسر في هذه الأحداث الدموية؟
في اعتقادي أنّ الخاسر كان اليمن والنظام الجمهوري، لأن النظام الجمهوري أثبت أنّ الجمهوريين هؤلاء لا يستحقّونه، وأنّهم ليسوا على قدر من الرؤية والبعد الاستراتيجي، فقد كان من الأفضل أن ينظروا إلى ما يعملون بعد كل هذه الحرب من تضميد الجراح. طبعاً يمكن القول إن التفكير بالتصالح والسماح للملكيين بالعودة كانت فكرة صحيحة لأنّ هؤلاء مواطنون يمنيون وكان يجب حل القضية سلمياً، لأنّ الحلّ العسكريّ لا يمكن أن يحلّ أيّ شيء.من مذكرات جارالله عمر
الدفاع عن الجمهورية اليمنية
إضافة تعليق جديدنسخة للطباعةأرسل لصديقالنسخة الورقية
. متـى بدأ جاد الله عمر العمل السياسي؟