المواطن/ كتابات – عيبان محمد السامعي
النقابات العمالية في الشطر الشمالي (1961 – 1990م):
تأخر نشوء النقابات في الشطر الشمالي من البلاد عن الشطر الجنوبي بحوالي عقد من الزمان, وذلك بفعل عوامل عديدة تمثلت بتخلف الوضع الاقتصادي والاجتماعي, وضعف الطبقة العاملة, والطبيعة القروسطية المتخلفة للنظام الإمامي الحاكم وقبضته الأمنية التي حالت دون تنظيم العمال لأنفسهم في نقابات عمالية علنية, فلجأ العمال إلى تكوين نقابات سرية أول الأمر. وقد أنشئت أول لجنة نقابية سرية عام 1961م لعمال مشروع الطرقات في مدينة تعز.[65]
وفي 20 يونيو 1962م, أي قبل قيام ثورة 26 سبتمبر بثلاثة أشهر فقط تداعت عناصر عمالية ــ بعضها عادت من الشطر الجنوبي ــ إلى لقاء عمالي أسفر عن الاتفاق على تكوين لجنة عمالية تضطلع بمهام التحضير والإعداد لتكوين نقابة عمالية.[66]
وقد نشطت هذه اللجنة في ظل ظروف سرية ومحفوفة بالمخاطر, وأسهمت في التأثير والقيادة ــ أحياناً ــ لبعض نضالات العمال قبيل اندلاع الثورة, مثل اسهامها في توجيه الإضراب الذي نفذه عمال “النقطة الرابعة الاميركية” في تعز, الذي وعلى الرغم من أنه أسفر عن فصل 70 عاملاً إلا أنه حقق أهدافه في زيادة الأجور والاعتراف بحق العمال في الاجازات, كما أسهم في رفع وعي العمال بضرورة تضامنهم وتكاتفهم.[67]
وفي يوليو 1962م, تشكلت لجنة نقابية لعمال مشروع طريق المخاء ــ تعز ــ صنعاء.
كان لاندلاع الثورة ضد الحكم الإمامي في 26 سبتمبر 1962م, والتي أسهمت فيها العناصر العمالية بدور مشهود, تأثيراً كبيراً على مسار الحركة النقابية, فقد وفرت المناخ الملائم للنشاط النقابي العلني, إذ نشأت أربع نقابات في مدينة تعز وتكونت نقابات في كل من الحديدة وصنعاء والمخاء وإب والراهدة. وفي مايو 1963م تم افتتاح مقر النقابة العامة بتعز, وبهذا سجل التاريخ قيام أول منظمة جماهيرية بمفهومها الحديث معترف بها في تاريخ شمال اليمن.[68]
أفضى هذا التوسع في تكوين النقابات إلى عقد المؤتمر الأول للاتحاد العام لعمال اليمن في الفترة من 14 – 17 يوليو 1965م. وقد تشكل قوام الاتحاد من 12 نقابة عامة.[69]
الاتحاد العام لعمال اليمن في مجرى النضال الوطني العام: [70]
مثّل تأسيس اتحاد عام للعمال علامة فارقة في سيرورة الحركة النقابية في الشمال, وقد لعب الاتحاد, منذ السنوات الأولى لتأسيسه, دوراً ثورياً فاعلاً في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر وتدعيم مداميك النظام الجمهوري, ومواجهة المخططات الرامية للالتفاف على أهداف الثورة وإجراء مصالحة بين اليمين الجمهوري والقوى الملكية.
كما أيد اتحاد العمال ثورة 14 أكتوبر 1963م, وأكد على قضية الوحدة اليمنية منذ أول وهلة, إذ لم تكن تسمية الاتحاد العام منذ تأسيسه باسم الاتحاد العام لعمال اليمن عفوية, بل كان الهدف منها التأكيد على رفض عمال الشمال للتجزئة السياسية القائمة لليمن, وإلى عدم الاعتراف بشرعية القيادة النقابية الرجعية المهيمنة على المؤتمر العمالي بعدن. ليس ذلك وحسب, بل قام الاتحاد بإقامة تنسيق مباشر مع النقابات الست الثورية في الجنوب, وعمل معها بشكل موحد ومنسجم, ومن ذلك: ما حدث في المؤتمر الثالث لاتحاد عمال العرب, فقد رفض الأصنج رئيس المؤتمر العمالي السماح لممثلي النقابات الست بحضور المؤتمر, فما كان من اتحاد عمال اليمن إلا أن قام بتخصيص نصف مقاعده في المؤتمر لممثلي النقابات الست, وهكذا تم للنقابات الست فضح القيادة الرجعية للمؤتمر العمالي.
استمر الاتحاد يلعب أدوار وطنية مختلفة, مجسداً جدلية الارتباط العضوي بين النضال المطلبي للحركة العمالية والنضال الوطني العام, وأنه لا يمكن فصل مسار أحدهما عن الآخر بأي حالٍ من الأحوال.
ونتيجة لهذه الأدوار النضالية, فقد تعرض الاتحاد بُعيد انقلاب 5 نوفمبر 1967م الأسود لاجراءات سلطوية قمعية, حيث داهمت السلطة الانقلابية مقر الاتحاد, واستولت على كل محتوياته, واعتقلت معظم قيادات الاتحاد.
على الرغم من قساوة هذه الاجراءات القمعية, إلا أنها لم تنل من همة العمال واتحادهم النقابي للاستمرار في النضال الوطني والدفاع عن الثورة المجيدة. فقد اشترك بفاعلية في المقاومة الشعبية إبان حصار السبعين يوماً (28 نوفمبر 1967 – 7 فبراير 1968م), وهو الحصار الذي فرضته القوى الملكية المدعومة من السعودية على العاصمة صنعاء, والذي شكّل أكبر خطر واجهته الثورة والنظام الجمهوري الوليد, “واستشهد على الخطوط الأمامية المئات من العمال والنقابيين سواء في الدفاع عن صنعاء أم في غيرها من المناطق.”
لم يشفع هذا الدور البطولي للعمال ولاتحادهم العام من الإجراءات السلطوية القمعية, فبدلاً من الإفراج عن القيادات النقابية والسماح بإعادة فتح مقر الاتحاد وإعادة الممتلكات المصادرة, أقدمت السلطة على اتخاذ قرار بحل الاتحاد وحظر العمل النقابي بشكل عام.
وفي 4 سبتمبر 1969م قامت السلطة بتشكيل اتحاد موالي لها, لكن النقابيين قاوموا هذا الشكل اللاشرعي وتمكنوا من إفشاله في المظاهرة الكبيرة في 1 مايو 1970م. وعملوا للإعداد للمؤتمر الثاني للاتحاد العام للعمال الذي انعقد في الفترة 2- 8 أغسطس 1970م بمدينة تعز. وقد خرج هذا المؤتمر بعدة قرارات وتوصيات من أبرزها:
مطالبة السلطة برفع الحظر العام على الاتحاد العام لعمال اليمن وإعادة ممتلكات العمل النقابي التي نهبت في أحداث أغسطس 68م وافساح المجال أمام العمل النقابي الديمقراطي.
العمل من أجل توفير وضمان العلاج المجاني والتعليم لأبناء العمال والفلاحين والمرأة العاملة وتوفير المواصلات وإنشاء التعاونيات والعمل على محو الأمية في الأرياف.
مطالبة الحكومة بإصدار القوانين والتشريعات العمالية وتعيين عناصر محايدة في مصلحة الشئون الاجتماعية والعمل.
استمرت القيادات النقابية في مقاومة الاجراءات القمعية للسلطة, وتمكنت من إفشال مساعيها في السيطرة على الحركة النقابية, بل وتوسيع قاعدة الحركة النقابية, وتشكيل لجان نقابية جديدة وهي: نقابة عمال وعاملات مصنع الغزل والنسيج صنعاء, ونقابة عمال ومستخدمي شركة الكهرباء صنعاء, ونقابة عمال ومستخدمي الطباعة والنشر صنعاء, ونقابة عمال ومستخدمي الخطوط البرية اليمينة صنعاء, ونقابة عمال المخاء, ونقابة عمال ومستخدمي سائقي السيارات صنعاء وتعز, ونقابة عمال ومستخدمي الطرقات تعز.
المزيد من القمع السلطوي.. والمزيد من المقاومة العمالية:
تزايدت وطأة القمع السلطوي ضد الحركة العمالية والنقابات في الشمال خلال السبعينات, فقد تعرضت قيادات عمالية للمطاردات والاعتقال والتعذيب الوحشي في سجون صنعاء ومنهم من استشهد تحت التعذيب, أمثال: علي قاسم سيف عضو اللجنة المركزية للاتحاد, وأحمد مرشد, بالإضافة إلى اغتيال يحيى عبدالملك عضو المجلس التنفيذي للاتحاد والذي اغتيل بحادثة دهس سيارة في أكتوبر 1977م.
كما تعرض المئات من العمال للفصل التعسفي من العمل بسبب نشاطهم النقابي وبموجب قانون جائر, قضى بعدم السماح بتوظيف أي عامل حتى في القطاع الخاص ما لم يحمل من الأمن شهادة حسن سيرة وسلوك ولا تُعطى هذه الشهادة لمن يكتشف أن له أي نشاط نقابي.[71]
اضطرت بعض القيادات النقابية للنزوح إلى عدن وفتح مكتب للاتحاد ومزاولة النشاط النقابي والسياسي هناك, وكان من أبرز هؤلاء: علي سيف مقبل ــ الأمين العام لاتحاد عمال اليمن, وحسن الجراش, وعبده سلام الدبعي, بينما استمر النشاط النقابي في الشمال في ظروف عمل سري في الغالب الأعم.
وفي ديسمبر 1977م, انعقد اجتماع نقابي موسع وقف أمام اوضاع الحركة النقابية ووضع برنامج للعمل وانتخاب لجنة تنفيذية, وقد حدد البرنامج المطالب المحلة والأهداف العلنية للحركة النقابية التي تمثلت بإطلاق الحريات العامة والنقابية وإطلاق سراح المعتقلين وإنهاء النفوذ الخارجي على مقاليد السلطة وانتهاج سياسة وطنية ديمقراطية داخلية وخارجية والحفاظ على السيادة الوطنية.. إلخ. وقد انتخبت لجنة تنفيذية وانتخب علي سيف مقبل رئيساً لها.[72]
شهدت ثمانينات القرن العشرين انحسار كبير في نشاط المنظمات النقابية العلنية التي تحول الكثير منها إلى العمل السري كموقف تكتيكي دفاعي جراء تشديد أعمال القمع السلطوي, وكان لهذا الموقف التكتيكي أثر سلبي على مصير العمل النقابي. فقد لجأ النظام وبواسطة عناصره الاستخباراتية إلى إنشاء منظمات نقابية رسمية وشكلية وكان الهدف من وراء إنشائها منافسة المنظمات المناظرة لها في الشطر الجنوبي في إطار الصراع بين النظامين, واحتواء أي توجه لوجود حركة نقابية مستقلة في الشمال.[73] وهكذا جرى تدجين الحركة النقابية واتحاد العمال في الشمال الذي تم تغيير اسمه إلى الاتحاد العام لنقابات العمال في الجمهورية العربية اليمنية, وعقد في أبريل 1984م مؤتمر تأسيسي له وبذلك أصبح موالياً للسلطة بصورة كلية.
من الأخطاء التي وقعت فيها قيادة الاتحاد العام للعمال وأثرت سلباَ على وحدة العمل النقابي, استبعاد وتهميش “نقابة السيقل العمالية” رغم ثقلها وتأثيرها الكبير في أوساط العمال في الحديدة, وذلك لأسباب سياسية وأيديولوجية.
فنقابة السيقل العمالية, كانت ذات توجه ماركسي, فيما اتحاد العمال ذا توجه ناصري قومي, ومن المعلوم أن شطراً من ستينيات القرن العشرين كان يشهد صراعاً أيديولوجياً محتدماً بين الناصريين والماركسيين. [74]
الهوامش والإحالات:
[65] عبدالرحيم محسن سيف, الوعي الاجتماعي ووعي الطبقة العاملة اليمنية, مجلة النهج, العدد (27), 1989م, ص177.
[66] علي سيف مقبل, قضايا ومواقف, الاتحاد العام لعمال اليمن, صنعاء, نوفمبر 1986م, ص15.
[67] نفسه, ص15- 16.
[68] نفسه, ص16- 17.
[69] قبسات من تاريخ الحركة النقابية اليمنية, مصدر سابق.
[70] معظم المعلومات الواردة في هذه الفقرة مستقاة من: علي سيف مقبل, قضايا ومواقف, مرجع سابق.
[71] راجع: نفسه, ص27.
[72] نفسه, ص28 – 29.
[73] بتصرف عن: عبده سلام عبده، وعبدالجليل عثمان الأكحلي, ورقة مقدمة للندوة التي نظمتها منظمة الحزب الاشتراكي اليمني بمحافظة تعز, بتاريخ 9/5/2012م.
[74] نقابة السيقل العمالية في الحديدة قام بتشكيلها عبدالله السيقل “مثقف يساري” وبتأثير من عبدالله باذيب أثناء زيارة الأخير للحديدة. وقد اشتهرت النقابة باسم “نقابة السيقل” وضمت عمال: الميناء والكهرباء والمحالج. (المصدر: الاستاذ الرفيق علي عبدالفتاح.)