المواطن/ كتابات – د.سيف صائل*
وفاة القائد الفذ والمناضل الوطني الكبير علي صالح عباد (مقبل) الامين العام السابق للحزب الاشتراكي اليمني, وفي هذه الظروف المؤلمة والمعقدة بالذات بقدر ما تعكس قضاء الله وقدرة سبحانه وتعالى, بقدر ما تمثل في الواقع فاجعة وخسارة كبرى حقيقية لا بالنسبة للحزب الاشتراكي اليمني فحسب ولكن بالنسبة للوطن والشعب برمتهما.
و بالتأكيد فان هذا الرحيل المؤسف الان قد اضفى وجه اخر للمأساة الشاملة التي تعيشها اليمن بسبب الحرب الوحشية الراهنة التي دخلت عامها الخامس والتي جففت الضرع والزرع واكلت الاخضر واليابس بكل ما نجم عنها من اهات والام ودم ودموع بل ومخاطر جسيمه لا يحمد عقباها .
وبهذا الارتباط في الاحداث والالام والمعاناة كان الوطن احوج ما يكون لعقول حكيمة وهامات وطنيه مستقيمه ومخلصه من العيار الثقيل بوزن ( بن عباد) تنقذه من براثن الكارثة وتصونه من الانكسار والدمار والتشظي .
كان مقبل قائد وطني استثنائي نادر المثال لظروف استثنائية مر بها العمل الوطني في مراحله الوطنية المختلفة .
مات (مقبل) ولكنه لم يمت لا يزال حيا بيننا ينبض ويشع بتاريخ كفاحي ناصع ثري غني بالمأثر والبطولات والدروس والعبر المضيئة التي هي محصله لعقل خلاق وعطاء نضالي متنوع ,وحكمه وثبات في الموقف ,والقيادة وصبر واخلاص وشجاعة لا حدود لها .
منذ ريعان شبابه وانخراطه المبكر في العمل الوطني في بدايه الخمسينات من القرن الماضي حتى وفاته رحمه الله, سجل مقبل ملحمة وطنيه متكاملة الاركان مشبعة بالدروس والقيم الوطنية الجليلة. وبات ملحا الان استشراف واجلاء ملامح هذه المسيرة الملحمة ,التي هي طبعا جزء حيوي من تراث الحركة الوطنية, وبلورتها وتقديمها للشعب والاجيال الشابة على وجه الخصوص.
ولا يراودني ادنى شك بان من تبقى من الرعيل الاول رفاق مقبل سوف يبادرون الى اظهار هذه التجربة وتسليط الضوء عليها .
لا جدال بان (مقبل) كان قامه سامقة ومثمرة حفرت في ذاكرتنا الجمعية الوطنية ذكريات وصور جميله ,وهو عالم بذاته جمع بين الواحدية والتنوع ,والاكثر من هذا انه كان رجل موقف بكل ما تعني الكلمة من معنى .
حياه الرجل حافله بفصول وتفاصيل هامه مثيره وكثيره, ومن الصعب الالمام او الإحاطة بها كلها في اطار مقاله قصيره ,ولكنها يمكن ان تكون موضوع لكتابات متعددة .
وفي هذا في المسار المتألق تسترعي الانتباه ثلاث محطات نوعيه بارزه .
الاولى: انخراطه في العمل الوطني منذ بدايه الخمسينيات من القرن الماضي ,وانتمائه لحركه القوميين العرب ثم الجبهة القومية لاحقا ,وانحيازه لصف الثورة وحركه التحرر الوطني ,واشتراكه النشط في اندلاع وتواصل ثوره 14 اكتوبر المجيدة 1963م, والكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني من اجل الحرية والسيادة والاستقلال الوطني .
ترعرعت واصتقلت شخصيته الوطنية والحزبية في معترك الثورة واتون الحركة التحررية للشعب ,وتجلى في تلك الظروف كقائد محنك, وفدائي مقدام وشرس لا تلين له قناه, ومناضل موهوب في مجالات الفكر والتنظيم والقيادة والحركة الفدائية والجماهيرية .. اذ كان من القلائل الذين جمعوا في نشاطهم بين صفاء ووضوح الفكرة الرؤية وصلابه الموقف العملي ,وبين رحابه الفكر ودقه التنظيم ,وبين متطلبات العمل السري والعمل العلني, وبين البعد السياسي الجماهيري والبعد العسكري .
عمل (مقبل) ورفاقه على استخدام مختلف فنون واشكال النضال ,وطوروا الاليات الفكرية والتنظيمية والسياسية للجبهة القومية بما يتناسب وحركه تقدم الثورة ,وعززوا العلاقة مع الشخصيات والقوى الوطنية الاخرى المعادية للاستعمار ومع الجماهير الشعبية عموما .. وادى التلاحم الوطني بين الجبهة القومية والفعاليات الوطنية الاخرى, والارتباط بين الشعب والقيادة ,وتزايد الكفاح المسلح واشكال النضال الجماهيرية الاخرى , فضلا عن الدعم الوطني والقومي, ادى كل ذلك الى اجبار الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس على التسليم بنضال واراده ومطالب الشعب ,والرحيل عن ارض الجنوب الطاهرة, وتحقيق الاستقلال الوطني .
الثانية: توطيد الاستقلال الوطني وتشييد الدولة الوطنية الفتيه بالجنوب. من المعروف هنا ان (مقبل )كان احد رواد وصناع الاستقلال الوطني المشهورين .ومن الطبيعي ان تتجه جهوده ورفاقه بدرجه اولى نحو ترسيخ دعائم الاستقلال الوطني والدفاع عنه وبناء الدولة الوطنية الجديدة.
تحمل حينها مسئوليات حزبيه عديده, غير ان اهمها كان رئيس هيئه سكرتارية اللجنة المركزية للتنظيم السياسي الجبهة القومية .ومن خلال هذا الموقع الهام بذل هو ورفاقه جهود أسطورية مضنيه وقويه ومكثفه باتجاه بناء الدولة وصنع التحولات والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية الجديدة لصالح الشعب .
فرغم المشقات والعوائق المختلفة الناتجة عن التخلف, ومخلفات الاستعمار, وتركة الجهل والفقر والمرض ,واشتداد المجابهة والحصار الاقتصادي والسياسي ,الا ان التجربة الوطنية في الجنوب قد احرزت وانجزت مكتسبات ومنجزات وطنيه حقيقيه لا غبار عليها. ليس اقلها اقامه دوله وطنيه قويه تعتمد النظام والقانون ,ودمج اكثر من 23 اماره وسلطنه في كيان وطني واحد, وانهاء مشاكل الثأر القبلي, وتثبيت الاستقرار الامني ,وتشكيل مؤسسات دفاعيه وامنيه وطنيه فعاله دافعت بجداره عن الوطن وترابه الوطني. كما حققت محو الأميه, وازدهار الثقافة ,وتطوير التعليم المجاني في مختلف مراحله, ونشر الخدمات الصحية المجانية والخدمات الاخرى ,وتوفير السلع الضرورية بأسعار رخيصة .
ولا يقل اهميه عن ذلك انشاء الاسس لقاعده اقتصاديه انتاجيه جديده واعده متعددة الانماط والقطاعات الاقتصادية, واستنهاض دور الشعب في حياه المجتمع ,ورفع دور المرآه والفئات الاجتماعية المستضعفة, وايجاد قدر من العدالة والمساواة الاجتماعية. فضلا عن رفع مكانه وعلاقات البلاد الإقليمية والدولية .
وما كان لهذه التحولات والمكاسب وغيرها ان تتجسد في الواقع لولا دور الطليعة والقيادة السياسية ,والمشاركة الفعالة للجماهير الشعبية, ودعم الاشقاء والاصدقاء في وطننا العربي والعالم .
كان (لمقبل) ايضا ادوار ومساهمات متميزة في تطوير التنظيم السياسي والتنظيم السياسي الموحد للجبهة القومية, وتفعيل المنظمات الجماهيرية والمهنية والإبداعية, ودعم وبلوره تجربه مجلس الشعب الاعلى ومجالس الشعب المنتخبة في المحافظات ,وتنشيط وسائل واليات الاتصال والتواصل مع الشعب .
ومن الثابت ان التجربة الوطنية حفلت بإيجابيات ومكاسب وإنجازات هائلة وعظيمه لا شك فيها ,ولازمتها بالمقابل سلبيات واخطاء وثغرات ومثالب معيقه .لعل اهمها وفي مقدمتها احتدام التناقضات والاختلافات في اطار القيادة السياسية ذاتها ,والتي تحول بعضها الى صراعات مسلحه. ولم تتمكن القيادة من استنباط وسائل واليات ديمقراطية مناسبه للتعامل مع تلك الخلافات وادارتها وحلها بطريقه سلميه وديمقراطية. وغني عن القول بان نتائج تلك الصراعات قد كانت كارثيه. اذ افضت الى المزيد من الضحايا والخسائر, وارهاق كاهل التجربة الفتيه واستنزاف امكانياتها واحتياطاتها الوطنية .
كان (مقبل) واحد من القيادات التي مستها تلك التناقضات واكتوت بنارها, فقد اعتقل في احداث 26 يونيو 1978م ,وبقى في السجن فتره من الزمن ,الا ان هذه الواقعة الصادمة لم تثير لديه أي ردود افعال جوهريه مغايره, ولم تزحزح قناعاته عن الموقف الوطني, وروح الطيبة والتسامح المتسمة فيه .
الثالثة : تحمله لمسئوليه قياده الحزب الاشتراكي اليمني (امين عام الحزب )في ظل اوضاع استثنائية شائكه وذلك بعد الوحدة واثر حرب صيف 1994م الظالمة, التي شنها نظام صنعاء ضد الجنوب والحزب الاشتراكي اليمني شريكاه في الوحدة .وادت في النتيجه الى ذبح الوحدة ,والاجهاز على الجنوب وتصفية انجازاته الوطنية, وضرب الحزب الاشتراكي اليمني ,ومصادره الهامش المحدود للديمقراطية الوليدة .
في مثل هذه الاحوال الحالكة السواد قبل (مقبل )التحدي وتحمل قياده الحزب الاشتراكي اليمني ,حيث عمل هو ورفاقه في القيادة الجديدة على اخراج الحزب من تحت الانقاض واعاده بنائه ,وفضح الحرب وادانة طابعها الوحشي العدواني المدمر, ومؤازرة ومناصره الجنوب والوقوف الى جانبه .واثر انتهاء الحرب قدم مقبل) ورفاقه مبادرات ومقترحات مبكره تدعو الى سرعه اجتثاث اثار الحرب ,واعاده الاعتبار للجنوب, واجراء مصالحه وطنيه ,واصلاح مسار الوحدة. الا ان هذه المبادرات والدعوات قوبلت بالرفض والتخوين والتضييق والمطاردة. مما فتح الباب واسعا لتجذر وتعمق الازمه الوطنية في مختلف مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, واندلاع الحروب الداخلية, وتأكل روابط ونسيج الوحدة الوطنية, ووضع مستقبل البلاد امام تحديات ومخاطر جاده .
ولم تدرك او لم تشاء ان تدرك قياده النظام واجنحته المتشددة ان مشكله الجنوب هي مربط الفرس وجذر الازمه في المشهد الوطني كلة, وان حلها بطريقه عادله تخدم مصالح الوطن وتأخذ بالاعتبار اراده ومطالب الجنوبين ,سوف تعيد القطار الى سكته الحقيقية وتعيد الامور كلها الى نصابها الحقيقي .اظهر( مقبل) شجاعة فائقة في التصدي لسياسات النظام الخاطئة, وتبني اهداف ومصالح الشعب والدفاع عنها ,بل وقدم امثله ونماذج حيوية في اداره وقيادة الحزب وصيانه وحدته, وتوسيع علاقاته مع الجماهير وقواها الوطنية.
كانت لديه رؤيه ثاقبه ونظره عميقه لا تخطئ لاعتمالات الحاضر ومسارات المستقبل, لهذا فقد كانت تحذيراته ومبادراته و توقعاته ومخاوفه حول مصير البلاد واحتمالات انزلاقها نحو المزيد من الحروب والانقسامات والتردي ,والتي ادير الظهر لها وحورب هو ورفاقه بسببها قد كانت في محلها تماما واثبتتها الحياه كاملا وبوضوح لا لبس ولا وهن فيه .
كان (مقبل )مع الحراك الجنوبي السلمي, ومناصرا قوي لمطالبه السلمية المشروعة. وكان مع انتفاضه الشباب السلمية في صنعاء وداعما لأهدافها الشعبية السلمية. كان مع كل الدعوات الوطنية الداعية الى تلاحم وتكاثف صفوف الشعب وقواه الوطنية الفاعلة لإخراج البلاد من الازمه ووهدة الانحدار والتمزق, والعبور بها الى مرافئ الامان والاستقرار والتقدم .وفي السنوات والايام الأخيرة ورغم معاناته وتنازعه مع المرض الا انه كان شديد الحساسية والتصلب تجاه الحرب ونتائجها المأساوية وشديد القلق تجاه مصير البلاد ومستقبلها .وبصرف النظر عن اسباب الازمه ,المأساة وعمقها وتنوع مظاهرها, وتعقيدات متغيرات المشهد الوطني والاقليمي والدولي وتداخلاتها ,فأن الرهان ظل بعد الله على الشعب والشعب بدرجه اولى ,وعلى التعاون الصادق للأشقاء والاصدقاء.
لقد ربطتني بالأخ (مقبل )زمالة اخوية طويله منذ ان تعرفت عليه في اواسط عام 1972م وكان هو حينها رئيس هيئه سكرتارية اللجنة المركزية للتنظيم السياسي الجبهة القومية, وانا عضو في سكرتارية منظمه التنظيم السياسي للجبهة القومية في محافظه لحج. ثم استمرت هذه الزمالة والعمل المشترك في اطار التنظيم السياسي والتنظيم السياسي الموحد الجبهة القومية ,وتعززت بصوره اكبر بعد ان تحمل مسئوليه الامين العام للحزب الاشتراكي اليمني حيث كنا انا والاخ الشهيد المناضل جار الله عمر امينين مساعدين له .كان (مقبل) بالنسبة لنا نموذج للقائد والانسان الحقيقي ليس في مجال العمل والقيادة فقط لكن ايضا في الاخلاق والمشاعر الإنسانية والعلاقات الأسرية والشخصية الأخوية الحميمة.
وداعا وانا لفراقك لمحزونين