كتاب المواطن / سلامة كيلة
لماذا يثور الشعب؟
لماذا يتجاوز “سلبيته” فيندفع للتمرد على السلطة التي طالما خافها؟
وبالتالي لماذا يقتحم السياسة من أوسع أبوابها، أي باب الثورة على السلطة؟
لابد من لمس أن تحرك الشعب ينطلق من خلخلة وضعه هو، ما دام لا يميل إلى السياسة أو يهتم بالنشاط السياسي، بل ينطلق من وجود الذاتي، لهذا ظهر في كل الحالات أن تحركه ارتبط بموضوع “اقتصادي”، أي بما يقود إلى رفع الأسعار أو تردي وضعه المعيشي، وهذا أمر يمكن أن يلمس من خلال دراسة الوضع الاقتصادي، خصوصًا مسائل البطالة والأجور والأسعار والخدمات والتعليم والصحة، وأيضًا مسائل السكن والزواج، حيث إن كل ذلك يوضح مقدرة أو عدم مقدرة الشعب على العيش، وبالتالي يفرض تململه، وصيرورة تصاعد التذمر والاحتقان، ويؤسس لرفض السلطة، والميل لتحويلها إلى عدو، الأمر الذي يفرض في لحظة حدوث الانفجار الشعبي، ربما نتيجة سبب هامشي، أو نتيجة دعوة واضحة.
إذن نلمس الآن أن “غير السياسي” هو الذي يقوم بالفعل السياسي الأهم: إسقاط السلطة، وهو يقوم بذلك لأنه يصل إلى لحظة يحس فيها بأنه لم يعد قادرًا على تحمّل الوضع الذي هو فيه، وهو الأمر الذي يدفعه إلى التمرد الهائل الذي يقوم به ضد السلطة التي خافها طويلًا، والذي يعتبر أنها السبب في كل الظروف السيئة التي يعيشها، حيث يتحوّل، هنا، السكون إلى ثورة، والخوف إلى جرأة وبطولة، والخضوع إلى تمرد، ينقلب الواقع من أساسه، ونشهد ما لم تكن النخب تتوقعه أو تحلم به، وأيضًا تخافه.
هذه اللحظة هي التي تظهر “أصالة” الشعب، وتعبر عن “روح” الشعب، وهي اللحظة التي تحقق التغيير العميق في مسار التاريخ، والتي دون فهمها ليس من الممكن فهم الشعوب، ومعرفة دورها الهائل في التاريخ، وبالتالي فهم أن الشعوب هي التي تصنع التاريخ.
إذا كان السياسي يبدأ من الدولة فإن الشعب يبدأ من “العيش”، من الوجود ذاته، حيث إن الشعور بالعجز عن العيش، وبالتالي الشعور بـ”الموت”، وهو الذي يكسر السكون والسلبية، ويؤسس التمرد على الوضع الذي هو فيه لأنه لم يعد يستطيع التحمّل، وهذا يتضح من خلال متابعة الأرقام التي تحلل الاقتصاد، والأجور والبطالة، لكي يتلمّس الوضع الذي وصلت إليه الشعوب، حيث بدت أنها على شفير الانهيار نتيجة التهميش والتفقير، رغم أن هذا لا يعني أن رد الفعل سوف يتعلق بذلك فقط، لأن تمرد الشعب يفرض ألا يصبح الصراع من أجل “العيش” فقط، بل أن الصراع من أجل العيش يفرض إسقاط النظم والتأسيس لبديل جديد، وخلال ذلك يجري تضمُّن مطالب عديدة، اقتصادية ومجتمعية ومناطقية وسياسية، حيث لا تعود المسألة متعلقة بـ”هدف مطلبي” بل تصبح مسألة إسقاط السلطة كلها، وهذا ما يفرض الانتقال من المطالب المباشرة إلى المطلب المجتمعي العام، أي مطلب تغيير كلية البنية الاقتصادية السياسية، وهنا يتحدد دور السياسي.
إن التحولات الاقتصادية التي تفضي إلى تمركز الثروة، وإفقار الطبقات الشعبية بما يجعلها عاجزة عن العيش، هي التي تؤسس الظروف لتراكم الاحتقان الاجتماعي، وتشكّل الحالة التي تفرض الثورة في لحظة ربما لا يستطيع أي من كان تحديدها بدقة، حيث يمكن لـ”مصادفة” أو “حدث عابر” لأن يكون اللحظة التي تحوّل الاحتقان إلى انفجار كبير، أي ثورة.
في هذه اللحظة لابد من ملاحظة أن كل “الرتوش الثقافوية” ومخلفات الماضي تتهاوى، كما أن الهدف يكون واضحًا ويتحدد في السلطة ذاتها، ويكون الحلم بتحقيق التغيير الذي يتضمن حلًا لمشكلات الطبقات التي تخوض الثورة، هنا يكون الصراع سياسيًا بامتياز، ويكون في أرقى صوره رغم العفوية التي تحكمه حين غياب الفاعل السياسي، أو البديل المبلور في برنامج ورؤية، فالحس العفوي لدى الشعب يكون صافيًا إلى أبعد مدى، ويحدد هدفه بصفاء كامل، وهو لا يقيس إلا انطلاقًا من ذلك، الأمر الذي يجعل كل محاولة للالتفاف على مطالبه تتهاوى، ويظل يخوض الصراع إلى أن يحقق التغيير الذي يحقق له وضعًا يخرجه من واقعه الذي بات لا يطاق.
هنا يكون فعل التغيير عميقًا إلى حد لا يمكن تجاوزه، ربما تفشل ثورات الشعوب، لكن ذلك لا يعني الركون والركود، بل يعني التحضير لثورات جديدة، بالضبط لأن الواقع لم يعد ممكن الاحتمال.
دفاع عن الشعب
وعن الفهم المادي للتاريخ
من يتابع كثيرًا مما يكتب عن الثورات التي بدأت في البلدان العربية وباتت تتوسع إلى بلدان أخرى في العالم، يلاحظ أن المنطق الذي يحكمها يقوم على “مبدأين”، أو على كلاهما معًا، المبدأ الأول هو رؤية الصراع من منظور العلاقات الدولية، أي من منظور مصالح الدول وسياستها، والمبدأ الثاني ينطلق من نظرية المؤامرة العالمية ، ماهو مخفي انطلاقًا من هذين المبدأين هو الواقع، ما هو محلي، أي الشعب.
فالمبدأ الأول يقود إلى تحليل كل الصراعات المحلية انطلاقًا من الصراع والتنافس بين “الدول الكبرى”، أي بين الإمبرياليات، هذا ما حكم تفسير الثورات العربية، خصوصًا الثورة السورية، والليبية، وهو ما حكم تفسير الثورة في أوكرانيا، وفنزويلا، ويظهر هنا الصراع بين “الغرب” و”الشرق”، أي بين الإمبريالية الأميركية وثالوثها من جهة، وروسيا/الصين والدول البازغة (دول بريكس) من جهة أخرى، وحيث تكون الإمبريالية الأميركية هي الشر، وتكون روسيا/الصين هي الخير (هي الاستقلال والتحرر والصناعة)، وفي هذا السياق يجري التحديد العشوائي لطبيعة الصراعات، أو الركون لتصور عن الصراعات في أزمان سابقة لم تعد قائمة الآن، وافتعال خلافات بين دول هي غير موجودة، وتوهم مواقف لدول هي غير ذلك، أو حتى تحديد صحيح للتنافس بين الدول، لكنه يصبح هو أساس الصراع في هذا البلد أو ذاك (مثل الثورات العربية وثورة أوكرانيا، وأحداث فنزويلا والبرازيل)، ليصبح هنا الفعل الداخلي هو نتاج الصراع الدولي، والتنافس بين الدول التي تريد السيطرة، يصبح هو انعكاس للصراع الدولي وليس نتاج تناقض داخلي.
وفي المبدأ الثاني يقود التحليل إلى “كشف مخططات” الإمبريالية الأميركية للسيطرة على العالم، وتجري الإشارة إلى كيف أنها حركت الشعوب لكي تقوم بالثورة من أجل تحقيق أغراضها، حيث إن “أكثر المفارقات المثيرة للدهشة هي أن الشعوب نفسها الآن هي وسيلة الولايات المتحدة لحكم هذه الشعوب..”، فـ”مملكة الشر أميركا تشعل الفتن في كل مكان” وهنا يدخل المنظور السحري الديني في صياغة الأحداث، بمعنى أن تبرير المؤامرة يقوم على هذا المنظور الذي يحاكي المنطق السحري، أو القدري الديني، لتظهر أميركا كلية الجبروت والقدرة، فهي قادرة على كل شيء، حتى على قيام الشعوب بثورات هي، كما هو مفترض، ترتعب منها وترفضها، لأنها تريد الاستقرار في سيطرتها، ولا تثق بالشعوب التي تخرج عن الطاعة، وهي تدفع الشعوب للقيام بهذه الثورات لهدف تسعى إليه هي، وفي هذا السياق يجري دبلجة الروايات، و”كشف المخططات” السرية، وتحديد الأسماء، وفي الأخير يجري الاستناد على وقائع هامشية، أو على تفسير شكلي لبعض الأحداث، كما على تخيلات وأوهام، أو تفسيرات هي نتاج عقل سطحي صوري، ينطلق بذاته لتحديد الأعداء.
لا شك في أن الصراعات الدولية مهمة، ولابد من أن يفهم التنافس على المصالح بين الدول، ولكن أساسًا بين الطغم المالية العالمية، وأيضًا لا شك في أن في التاريخ مؤامرات لكن التاريخ ليس مؤامرة مستمرة، والمؤامرات هي من نشاط أجهزة المخابرات التي تعمل في الخفاء، وهي تكمل سياسات الدول من أجل تسهيل السيطرة أو التخلص من خصوم، لكن يبقى الصراع هو صراع الناس ضد النظم والمستغلين، فهذا خط في التاريخ مستمر، في ظل وجود صراع دولي أو في غيابه، وفي ظل وجود مؤامرات أو في غيابها، أو فلنقل إن هناك صراعًا بين الدول طبعًا، لكن هناك صراعًا بين الشعوب والنظم التي تحكمها كذلك، وإذا كان سبب الصراع الأول هو سعي الدول للسيطرة لتحقيق مصالح الطبقة المسيطرة فيها، ومصالحها كدول تخدم هذه الطبقة، لهذا تسعى إلى “إضعاف الخصم”، وإلى الاستحواذ على مناطق تهمها من أجل النهب، وهو الأمر الذي يؤسس للصراع بين الدول (أو بين الطبقات الحاكمة في هذه الدول)، فإن سبب الصراع الثاني هو النهب الذي تقوم به الطبقة المسيطرة، وحالة الإفقار والجوع والاستغلال الشديد الذي تفرضه على الشعب، وهو الأمر الذي يفضي إلى نشوب الثورات، والتمردات وكل حركات الاحتجاج، وهي كثيرة في التاريخ العالمي، وفي العصر الحديث خصوصًا، من الثورة الفرنسية سنة 1789 إلى الثورة الفرنسية سنة 1830، والثورة الفرنسية والثورات الأوروبية سنوات 1848/1850 ومن الثورة الروسية سنة 1905 إلى الثورتين الروسيتين سنة 1917، إلى ثورات الصين وفيتنام وكوبا وكل موجة الثورات في القرن العشرين، حيث كان السبب الداخلي هو السبب الأساسي، رغم كل الصراعات الدولية التي كانت تحدث للاستفادة من “ضعف الخصم”، ولتحقيق مصالح إذا أمكن ذلك.
الآن، إن المنظور “الذهني” وحده هو الذي يختار ما هو السبب الأساسي في الصراعات، وهذا المنظور إما أن يكون علميًا، وماديًا أو مثاليًا، وحتى “خرافيًا”، حيث إن الانطلاق من الصراعات الدولية يعني إهمال الصراع “المحلي”، أو اتباعه له دون قرينة، وسيكون الأمر إشكاليًا إذا كان الذي يطرح هذا الموضوع “ماركسيًا”، لأن الماركسية تنطلق من الملموس، العياني، أي من الوجود البشري، ومن ثم الاقتصاد والطبقات التي يتشكل الشعب منها، قبل أن يلمس الوضع العالمي وأثره على الصراع “المحلي” هذا، لهذا تنطلق الماركسية من صراع الطبقات قبل صراع الدول، والتنافس بين الأمم، وترى هذا الثاني بدلالة الأول وليس العكس، إنها تبدأ من “الظاهرة” التي هي حسب التحديد الماركسي الاقتصاد والطبقات في الواقع الملموس، وترى التناقضات داخلها وليس خارجها، لهذا تراها في إطار الدول قبل أن ترى الصراع بين الدول، وهي ترى الاقتصادي الطبقي قبل أن ترى السياسي (الدولة)، وترى السياسي انطلاقًا من الاقتصادي الطبقي، هذه بديهيات النظر المادي الذي يقوم منطق تحليل الماركسية عليه.
ومن ثم فإن كل النظر الذي ينطلق من العلاقات الدولية أو يتكئ على “نظرية المؤامرة” هو خارج الماركسية، وهو فهم مثالي يبدأ من المظهر (الدولة والسياسة) وليس من الجوهر (الاقتصاد والطبقات)، يبدأ من المجرّد (العلاقات الدولية) وليس من الملموس (واقع الطبقات)، لهذا فهو يؤسس لتصورات خاطئة بالضرورة، ويتخذ مواقف في غاية الجهالة.
فالماركسية تبدأ من الاقتصاد في سياق تصاعدي إلى الطبقات التي تتشكل على أساسه، ومن ثم الدولة التي تؤسسها الطبقة المسيطرة لضمان سيطرتها، وتنظيم مجمل آلياتها، إلى الوعي الأيديولوجي الذي يخدم تحقيق مصالحها.
ولما كان العالم يشكل من دول، تكون هذه مستوى أعلى يعبّر عن تشابك الاقتصاد، وعن توزع الدول وتصارعها أو تحالفها، بالتالي في الاقتصاد هناك تشابك لا بد من أن يمر عبر الدولة القومية، وفي العلاقات الدولية هناك تشابك وتصارع بين الدول، وما دامت السياسة هي التعبير المكثف عن الاقتصاد، لا بد بالتالي من أن نبدأ في الاقتصادي لكي نفهم السياسة، هذا هو ملخص الفهم المادي الذي يوصل إلى تحليل علمي للواقع، وفهم حقيقي له.
ما يجري في فهم الثورات والصراعات العالمية الراهنة هو رؤية البنى السياسية والمؤسسات (الدول) دون رؤية الواقع الأساس، الذي هو الاقتصاد والطبقات، البنى السياسية هنا، سواء الأحزاب أو الدول، تغطي على الواقع الفعلي الذي هو الشعب، الناس، البشر، وهذه عادة بالتالي، لا تؤخذ في الحسبان، هي كم مهمل، فالإنسان لا قيمة له، كل القيمة للمؤسسة (الحزب، النقابة، الدولة)، ولهذا حين يثور الشعب دون أحزاب ونقابات يجري البحث عمن حركه، حيث لا بد من محرك، هذه الفكرة التي ابتدعتها الفلسفة منذ نشوئها، وأخذها الدين، لا زالت تقبع في أعماق الوعي (وهذا ما يؤكد وعي مثالي)، ما قالته الماركسية بالضبط هو أن فقر العامل وتعرضه للاستغلال يرفضان عليه الصراع، وهذا ما أسمته الصراع الطبقي، إن وضعه الذاتي هو الذي يدفعه لخوض الصراع الطبقي وليس أي فاعل أو محرك، وحالة الاستغلال الطبقي تنتجها السيطرة الطبقية القائمة، أي الرأسمالي المحدد في المكان المحدد، وهذا جوهر التناقض في المجتمع، الذي يحكم مجمل التناقضات الأخرى، والشعب هو الطبقات المفقرة، العمال والفلاحون الفقراء والمتوسطون، والفئات الوسطى المدينية، والموظفون المتوسطون والصغار، وهم الذين لم يكن من حزب قادر على أن يعبر عن وضعهم وينخرط معهم في الصراع ضد الرأسمالية المسيطرة، لهذا وصل الاحتقان الذاتي لحظة كان لا بد من أن ينفجر، فحدثت الثورات، هذا هو أساس الثورات، وكل شيء آخر هو تكملة لذلك، حيث يمكن أن يجري الالتفاف على الثورة أو تحاول قوى ركوبها، أو يستفيد من ضعف النظام طرف خارجي، كل ذلك ممكن، لكنه نتاج حالة موضوعية نشأت نتيجة التناقضات الداخلية.
ولفهم واقع الشعب لا بد من العودة إلى “الارقام”، أي إلى تحديد طبيعة الاقتصاد وحجم كل طبقة، وواقعها الاقتصادي (العمل والأجور والصحة والتعليم)، وبالتالي مدى استغلالها ومقدرتها على العيش (توازن الأجور والأسعار)، هذه أوليات دراسة الواقع، وفهم الظواهر التي تنشأ فيه، وهي المنطلق لفهم الوضع الأشمل، المحلي فالعالمي، ولمعرفة أسباب غياب المؤسسات السياسية عن الوجود الفعلي بين الشعب، فالشعب موجود بها أو بدونها، أما هي فلن يكون لها دور وفاعلية بدونه.
بالتالي أمام هذا الفيش من الهذر حول المؤامرات والصراعات الدولية لا بد من أن نعيد الاعتبار للشعوب، الشعوب التي وحدها تصنع الثورات، والتي وحدها تسقط النظم وتحدث التغيير الحقيقي، من قاتل في سيدي بو زيد وكل مدن تونس هو الشعب، ومن احتل الساحات في كل مصر هو الشعب، ومن احتل ساحات اليمن هو الشعب، ومن تحرك في البحرين هو الشعب، وواضح أن كل المنطقة وكثيرًا من بلدان العالم تشهد الأزمة الطبقية التي تفرض تحرك الشعوب سواء بأحزاب أو بدونها، حيث ليس لدى الشعوب ترف انتظار أن “تهندس” النخب “الأحزاب المثالية” التي لا بد من أن تقود الشعب لكي يكون هناك ثورة، الشعوب لم تعد تحتمل، هذا هو مختصر الواقع الراهن، لهذا بدل كل هذا اللطم والتشكيك والهذر يجب أن يصبح المطروح هو كيف ننظم صراع الشعوب؟ وما هو البرنامج الذي يجب أن نطرحه كبديل عن واقعها القائم لكي يكون أساس الدولة الجديدة التي ستصنعها هي؟ وكيف نكون جزءًا منها وليس نخبًا هامشية تعيش خيالاتها وأوهامها؟
الشعوب تحركت لهذا سوف يتغير مسار التاريخ.