كتاب المواطن – الحلقة (17)
إن الدفاع عن حقوق الخيال يعني النضال ضد جميع أشكال الاستلاب: بدءا من استلاب الوضعية إلى استلاب. الواقعيات، التصويرية المزعومة والدوغمائيات السياسية أو الأخلاقية أو الدينية.
والتحسبية الجديرة حقا بهذا الاسم تبدأ بالضرورة بإعادة نظر في المسلمات. فهي فن اکتشاف الإشارات التي قد تكون تافهة أحيانا بأبعادها الحاضرة ولكن بشيرة بانقلاب جذري. وغالبا ما جرى التنويه بأن علم القرن العشرين، من النسبية الى الفيزياء الكمية، قد انقلب رأسا على عقب، في أسسه بالذات، بدءا من إدراك ظاهرات تكاد لا تقع
بحث الإدراك: تجربة ميكلسون، تبدل موضع نقطة الرأس بالنسبة إلى عطارد، إشعاع الجسم الأسود. كذلك فإن بعض الاضطرابات الطفيفة في الحياة الاجتماعية قد تكون بشيرة بثورة عميقة.
ليس هناك، من حيث التعريف، منهج صارم دقیق، للاختراع.
ولكن الخيال والإبداع قد يجدان ما يحفزهما ليس اذا ازيلت العقبات التي تعوق انطلاقها فحسب، وهي العقبات المتمثلة في الآراء المسبقة وفي استلابات الوضعية أو الدوغمائية، وإنما بوجه خاص اذا لم تعد الجهود تنصب كلها على تأهيل (الاختصاصيين) واذا تركز الاهتمام على العكس على التآلف مع إبداعات الفكر الكبرى، بدءا من العلوم إلى الجالية. وإن نظرة رحبة بما فيه الكفاية وشمولية بما فيه الكفاية إلى التاريخ وإلى التطورات الراهنة للعلوم والفنون لقمينة بأن تجعلنا نفهم دور الإخصاب المتبادل لا بين العلوم التي لها حدود مشتركة فحسب ، کالكيمياء وعلم الأحياء على سبيل المثال، وإنما أيضا بين میادین ليس بينها في الظاهر من صلة. وليس من المستبعد أن يوحي مفهوم معين عن الكهرب أو شكل معين من الموسيقى بفرضيات بنيوية لتسيير مشروع من المشاريع.
لقد استبق الشعراء السرياليون، بدراستهم لآليات الإبداع التخيلي كتعليق (الرقابة العقلية)، في الكتابة الآلية أو استخدام (المصادفة الموضوعية)، الناجمة عن التقاء عدة سلاسل مستقلة، استبقوا لا بعض مناهج التحسبية فحسب، بل أيضا بعض مناهج البحث العلمي المقارن الذي يخصب تفكير باحث من الباحثين من خلال الصدمة اللامتوقعة التي يحدثها اكتشاف من الاكتشافات في ميدان آخر مختلف مطلق الاختلاف. بل إن السيبرانية نفسها قد أعادت الاعتبار إلى برهان المماثلة ، أي إلى المجاز، بوصفه أداة للبحث والاكتشاف، مع أنه كان وقفة على مجال الشعر وحده.
هذا لا يعني البتة التهوين من شأن الحظة العلمية: فالتحسبية كما قال إيف باريل هي الطوباوية مضافًا إليها التحقيق*. وما القطيعة التنبؤية حين صيرورتها عاملية، وما الخيال الطوبائي حين خضوعه للتحقيق التجريبي إلا تعريف العلم بالذات وهو في سبيله إلى التكون.
ويبنبغي هنا أن نتلافى تفسيراً مغلوطاً شائعاً لكلمة (العلم).
فحين يتكلم الفلاسفة الذين لا يعدو ماركس أن يكون تلميذهم ووريثهم المباشر، حين يتكلم فيخته على سبيل المثال عن “مذهب العلم” أو هيغل عن (علم المنطق)، مثلهم مثل ماركس حين يتكلم عن (الاشتراكية العلمية)، فإنهم لا يفهمون البتة كلمة (العلم) بالمعنى الوضعي، أي بالمعنى الذي يمكن معه وصف الطبيعة أو التاريخ والتكهن بهما بصرف النظر عن الإنسان ومداخلاته.
إنهم يقصدون بـ (العلم) فكراً راسخ الأساس، أي فكراً واعياً لمسلماته. أما الفكر غير الواعي للمسلمات التي تؤسسه فليس هو العلم، وإنما هو العلموية أو الوضعية.
كان ماركس قد شدد اللهجة، منذ (الأطروحات عن فيورباخ)، على اللحظة (الفعالة) للمعرفة.
فقد رفض، رداً على ماديي القرن الثامن عشر الفرنسي الميكانيكيف، أن يعد المعرفة (انعكاساً) لواقع معطى لمرة واحدة ونهائية.
فقد كانت المعرفة في نظره فعلاً، مشروعاً. وقد أكدت مباحث علوم القرن العشرين صحة هذا التصور.
إن العلم الذي في سبيله إلى التكوين – لا العلم المتكون، المصنف في موجزات مدرسية – لا يصدر عن (وقائع) ناجزة لينتقل منها إلى قوانين تعيد ربطها بعضها ببعض وإلى نظريات تعيد ربط هذه القوانين في نظام. ِانما يصل العلم ، كما أوضح ذلك باشلار، بطريقة معاكسة: فهو لا يبدأ ابداً ب (معطى) وبملاحظة ، بل يبدأ على العكس بفعل مع كل ما ينطوي عليه هذا الفعل من مبادرة ومجازفة وملتمة.
وهو يستبق (المعطى) المزعوم بفرضياته ونظرياته ونماذجه التي يمكن للتجربة التحقيقية ان تكذبها نهائياً او تؤيد صحتها مؤقتاً.
وبين التلمس والتحقق يبنى العلم وقائعه وقوانينه، الى أن يرغم على هدمها وعلى إعادة بنائها تبعاً لنموذج اًخر، وهذا في حركة جدلية لاحد لها.
***
إن تغير بنى التربية وتغيير مضمونها ومناهجها على حد سواء يؤلفان جزءاً لايتجزأ من الثورة الثقافية .
هذا التغيير ينتج عن اهداف أساسية: فإعداد العدة لاشتراكية مبنية على التسير الذاتي يقتضي وضع حد في ميدان التربية كما في كل ميدان اخر الثنائية.
أي وضع حد للبنى الثنائية للمدرسة، تلك البنى التي تعبر عن سائر الثنائيات وتؤيدها ، ولاسيما ثنائية التعارض بين العمل اليدوي والعمل الفكري، المرتبطه ارتباطاً لا تفصم عراء بثنائية القادة والمنفذين.
وهذه واحدة من مشكلات الثورة الثقافية الأساسية.
يطلق، بوجه الاجمال، اسم العمل اليدوي على العمل الذي يتحكم بالأشياء، واسم العمل الفكري على العمل الذي يتحكم بالبشر (أو الذي يتحكم بالاشياء من خلال التحكم بالبشر ).
وقد سبق لدور كهايم أن لاحظ في دراستة للتطور التربوي في فرنسا أن تعليم الكلام مقدم، تقليدياً، على علم الأشياء.
وأولية التحكم بالبشر هذه تترجم بفظاظة في مرتبية المشروع: فتعويض وظيفة الإشراف أعلى من تعويض الكفأة التقنية فإذا ما ارتقى عامل من العمال الى وظيفة مراقب ورشة، زاد أجره زيادة مرموقة، لا لأنه اكتسب تخصيصاً أعلى بل لأنه يمارس سلطة اكراهيه.
وهذه الواقعة تمثل، في شكل بالغ البدائية، نموذج تصورات التسلسل الاجتماعي التي ينبغي أن تكون مكافحتها الهدف الأول لأي ثورة ثقافية.
ولا يأخذ تغير بنى التربية كامل معناه إلا في هذا المنظور.
ففي مجتمع متطور كمجتمعنا يرتفع فيه عدد المثقفين للعمل دورياً في الريف أو في المصنع، فإن الغاء ثنائية العمل الفكري والعمل اليدوي، ثنائية المدرسة والحياة الواقعية، ثنائية التسلسل المرئي والتقنية، يقتضي تحويلاً جذرياً لنظامنا المدرسي والجامعي.
وليس السبيل إلى ذلك اصلاح التعليم وإنما ثورة ثقافية.
إن نظامنا الراهن لا يتجاوب وحاجات عصرنا.
وثمة استمرار مأساوي بين التعليم النابوليوني بطابعه الوظيفي والتوظيفي وبين مؤسساتنا المدرسية والجامعية الراهنة ببناها الدمجية والتكيفية والاستلابية.
اولاً لأن مفهوم التأهيل الذي يتم اكتسابه مرة واحدة ونهائية في بداية الحياة قد بات مفهوماً بالياً في مجتمع ملزم، في المقام الأول، بأن يأخذ في حسبانه التغيرات المدوخة التي لا ………. تطرأ بلا أنقطاع وبأن يعد نفسه للسيطرة عليها.
وعليه فإن التربية الدائمة لا يمكن ان تكون إضافة، (وصلة) للتعليم المدرسي.
انما ينبغي على العكس أن يعاد النظر في النظام كاه وأن يعاد بناؤه بدلالة هذه الضرورة الجديدة، ضرورة دعومة التربية على مدى الحياة.
ثانياً، اذا كنا نرغب في أن نكافح الثنائيات الاستلابية، وفي أن نهيئ كل فرد ليمارس سلطتة في التقرير الذاتي الحر لغايات الحياة الاجتماعية وفي التسير الذاتي لوسائلها في جميع الميادين وعلى جميع المستويات، فإن المدرسة لا يمكن ان تكون لا متحفاً لا للثقافة لا يقدم الى التلاميذ سوى نماذج الماضي، ولا الة ثقافية، (تفبرك) الاختصاصين الذين يحتاجهم الانتاج على المدى القصير.
إن المشكلة هي مشكلة تأهيل أناس قادرين لا على تقلد الوظائف فحسب بل ايضاً على تجديد جميع اشكال الحياة والنشاط الاجتماعي، هي مشكلة تكوين (بشر تامين) اي مبدعين مسؤولين في قطاع محدد من الانتاج وقادرين في الوقت نفسه على التبصر بغايات المجتمع الاجمالي وعلى المساهمة الواعية في انشاء مشروع الحضارة الجديد.
نحن لا نسعى إذن هنا الى رسم برنامج مفصل لإصلاح التعليم بمن به على الامه (من الاعلى) و(من الخارج) بل نسعى الى طرح مشكلة الثورة الثقافية في ضوء ظروف بلادنا.
وليس همنا، على هذا الصعيد ايضاً، ترقيع المؤسسة، بل أن نتساءل كيف يمكن أن يعاد توزيع الكوادر عن طريق تغير مفهوم التعليم بالذات مثلما سبق ان حاولنا تغيير مفهوم السياسة او مفهوم الدين.
ما من تدبير اداري وما من برنامج مسبق الإعداد بقادر على حل هذه المشكلة.
ذلك لأنها تقتضي، بحكم طبيعتها بالذات، تجريباً جريئاً ومنهجياً معاً، وتشاوراً مع جميع المعنين، اي مع المعلمين والطلاب والتلاميذ والأهالي، وكذلك مع النقابات وارباب المشاريع وجميع الشغيلة، اليدويين والفكريين، ومع الحرفين والباحثين.
فالمشكلة ليست مشكلة منفصلة وإنما هي مشكلة دمج المدرسة بالأمة.
ما المعالم الكبرى الممكنة لهذا التحول الجذري؟
إن نقطة الانطلاق هي وضع المدرسة في قفص الاستجواب بوصفها مؤسسة منفصلة.
منفصلة عن الحياة وواقعة في بداية الحياة فقط.
واعادة النظر هذه لن تبدو مستغربة اذا ما تذكرنا ان المدرسة بوصفها مدرسة منفصلة مهمتها التأهيل لممارسة مختلف النشاطات الاجتماعية في مقرات معزولة عن الحياة المهنية وبواسطة جهاز متخصص في نقل المعرفة هي ابتكار مستحدث قريب العهد: فهي معاصرة للثورة الصناعية والثورة البورجوازية..
فحتى ذلك الحين وبأستثناء (الكنبه) و(النخبة) التي يجري تأهيلها في مدارس الكنيسة، كان الفلاح هو الذي يعلم الفلاح، والجندي هو الذي يعلم الجندي، والحرفي هو الذي يعلم الحرفي.
وابتكار المدرسة وانفتاحها لعدد متعاظم من النشاطات والتلاميذ هو في الحق انجاز تاريخي كبير للبرجوازية، مثله في ذلك مثل ابتكار البرلمان والتوسع التدريجي في حق الانتخاب على الصعيد السياسي وبالفعل، كانت البورجوازية والمجالات على اختراع اشكال جديدة من الثنائية، مبنية من الان فصاعدا على الثروة والعلم، مقابل الثنائيات القديمة المبنية على الولادة ومشيئة الله.
والمثال الاكثر نموذجية هو مثال التعليم النقي. فمنذ النصف الاول من القرن التاسع عشر اماط اوغست بلانكي النقاب في معرض تحليله لـ(مشروع المدارس المهنية) في كتابة (الرأسمال والعمل) عما تنطوي عليه هذه المدارس من (فكرة ثابتة ترمي الى حبس العامل في مهنة ،ومن ثم العودة الى نظام الطوائف).
وكما يلاحظ غربنيون فإن التعليم النقي مايزال محتفظا، بعد اكثر من قرن من الزمن، بوظيفته كعامل تفرقة اجتماعية.
ومن مهام التعليم النقي كذلك تأييد الثنائية من خلال فبركة نمط (الوسطاء) الذين يحتاجهم النظام القائم والذين امكن ان يطلق عليهم اسم (نخبة المنبوذين): فهم لم يتخطوا ابدا شرط العامل، ولكنهم سيتمتعون بتأهيل مهني وبأخلاق تجعل منهم (ارستقراطية عمالية)، فيلقا من ضباط صف النظام القائم.
والمدارس الثانوية بدورها لا تقل انقطاعا عن الواقع. ففي عام ١٩١٤ لم يكن في التعليم الثانوي بعد غير ثمانين الف تلميذ، وكانت هناك بالمقابل (امبراطورية استعمارية) قادرة على امتصاص الفائض من (النخبة القائدة) المكونة على ذلك النحو.
وفي عام ١٩٧٢ يناهز العدد على ملايين ثلاثة، ومع ذلك لم يطرأ تغيير جوهري على نموذج التأهيل.
وتلكم هي المفارقة: فالتعليم النقي الذي يفترض فيه، بصورة طبيعية، أن يؤهل اكثر من نصف الناس العاملين، يضم ستمئة الف تلميذ، وبالمقابل فإن التعليم الثانوي التقليدي يضم خمسة اضعاف هذا العدد مع أن الاستخدامات التي يؤهل لها تقل بأربعة أضعاف عن الاستخدامات التي يؤهل لها التعليم النقي.
وتستمر هذه المفارقة المجرمة مع التعليم العالي: فمدة الدراسات التي لا تفضي الى لاشيْ لأني يزداد في امدها.
وكل شيْ يجري كما لو أن هناك رغبة في تأخير دخول هؤلاء الشبان الى ميدان الانتاج والحياة اطول مدة ممكنة.
وهذا اسلوب من اساليب تمويه العدد الحقيقي للعاطلين عن العمل: إرغام جمهرة من الشبان على البقاء في مقاعد الدراسة بالحكم عليهم، كما قال نقابي ايطالي، بـ (عمل إجباري غير منتج).
هكذا تتحول الكليات الى دار حضانة وحراسة للشبيبة التي لامكان لها في الإنتاج والحياة، وللمعارضين الساخطين من تعليم غريب عن الحياة ومن انعدام مجالات الاستخدام معاً.
وبفارق لا يزيد عن اشهر قليلة، وفي ظل نظامين مختلفين، قررت كل من المانيا الشرقية ومعهد ماساشوسش التكنولوجي المشهور في الولايات المتحدة اختصار مدة الدراسة في التعليم العالي سنة واحدة.
وبالفعل، لقد بات يتضح بمزيد من الجلاء عبث الرغبة في حصر تأهيل الانسان ببداية حياته وحدها، مع أن التحول المتواصل في مجتمعاتنا، على صعيد التكنولوجيا كما على صعيد المعرفة والمؤسسات، بات يقتضي المزيد والمزيد من التدريب الاضافي.
ينبغي إذن أن يمتد التأهيل طوال الحياة الفاعلة.
وهذا يقتضي أن يوضع الشابان والشابات على تماس في ابكر وقت ممكن مع الحياة والواقع والانتاج والتسير الاجتماعي.
وفي مجتمع تتحول فيه المعرفة أكثر فأكثر إلى قوة إنتاج رئيسية، ينبغي أن يتم اكتساب هذه المعرفة أكثر فأكثر إلى قوة إنتاج رئيسية، ينبغي ان يتم اكتساب هذه المعرفة في المكان الذي تولد وتتجدد وتتطور فيه: في المشروع، والمختبرات، وهيئات التسيير، ومراكز الابحاث، وعليه فإن قسماً كبيراً من وظائف المدرسة يجب أن يوزع بين مختلف نشاطات المجتمع.
والحركة المتبادلة من العمل العملي إلى العمل النظري يجب ان تتم في كلا الاتجاهين: فمن الضروري، على سبيل المثال، أن يختصر يوم عمل العمال وان تنظم عدة اسابيع للثقافة والتدريب الاضافي سنويا لجميع الشغيلة.
وهذه ليست محض ضرورة تقنية يفرضها التوسع والازدهار (ولهذا يتوجب على المشاريع أن تدفع أجر هذه الاسابيع مثلها مثل سائر أسابيع العمل) بل هي ايضاً ضرورة سياسية للتقدم باتجاه التسير الذاتي (ولهذا ينبغي على الخزينة العامة أن تساهم في نفقات هذا التأهيل).
وحتى لا تكون فترات الدراسة هذه مجرد وسيلة، بالنسبة إلى ارباب العمل، لإعداد الجهاز العامل وتأهيلة لتلبية حاجات المشروع القصيرة الأمد، ولتشويه الثقافة بالتالي مرة اخرى، ينبغي أن يكون توجية هذه الثقافة الدائمة، المرتبطة بكل شكل من أشكال النشاط القومي، وإدارتها وطرية عملها تحت اشراف ثلاثي في البداية: اشراف الشغيلة وارباب العمل والهيئات التربوية.
وهذا الاشراف الثلاثي سيمارس على مضمون التعليم الذي ينبغي أن يشتمل على تدريبات تقنية اضافية وعلى تأهيل وإعلام بعدد التسير، وبوجه خاصعلى (ثقافة عامة) بالمعنى الذي حددناها به الى (الاعلامية، الجمالية، التحبية).
وسوف يكون التعليم نفسه ثلاثي الاطراف: إذ سيتم اختيار المعلمين، من جهة أولى، من بين المهندسين وكوادر المشروع أو من قبلهم، ومن بين النقابات أو من قبلها من جهة ثانية، ومن بين المدرسين والباحثين والعلماء والفنانين من جهة ثالثة واخيرة.
وبديهي أن التنظيم سيبنى في البداية على مبادئ التسير المشترك الثلاثي الاطراف لينتهي الى التسير الذاتي.
وسوف يتوجب على المدرسة والجامعة حينئذ أن تتكيف مع هذه الشروط الجديدة.
وهذه اليوم ضرورة مطلقة:
أولاً لأن محض استقراء الأرقام الراهنة يقدم لنا مثالاً ساطعاً على المتزلق الفاجع: فميزانية التربية القومية ستستأثر بأكثر من نصف الميزانية القومية إذا ما أربد (دقرطة) التعليم مع الاحتفاظ ببناء الراهنة.
وفضلاً عن ذلك، فإن وزارة التربية القومية هذه، بموظفيها الذين يناهز تعدادهم على ثمانمئة ألف وبالمستفيدين من خدماتها البالغ تعدادهم اثني عشر مليوناً، ستقف عاجزة عن تسير مثل هذه الكتلة.
ولو اتبعنا بها جميع الخدمات التعليمية التابعة الان لوزارات أخرى، فإن حوالي نصف سكان فرنسا سيسعون خاضعين لهذه الاله البيروقراطية الممركزة، العاجزةوبحكم ضخامتها بالذات عن اداء مهمتها.
وهنا ايضاً يستطيع التعليم النقي أن يلعب دوراً ريادياً.
فهل من المعقول أن تنصب الجهود على إعادة خلق شروط انتاج المصنع بصورة مصطنعة في المدارس، في وقت تعرف فيه التقنية تجدداً متسارع الوتائر وتؤول فيه الالات والمنشات الى البلى بسرعة متعاظمة باطراد؟ وحتى على فرض أن مبالغ من المال معادلة للأموال الموظفة في صناعتنا كافة قد وظفت في مثل هذه المحاولة الحمقاء، فإن الهوهة الفاصلة عن الواقع لن تردم ابداً ،ولن يتبدل شيء في حقيقة أن تأهيل التلاميذ سيتم على الدوام بواسطة الات بالية.
من الضروري إذن أن يتم الجزء الأكبر من المران على العمل الواقعي في محيطة ووسطه الحقيقي ،وتحت نفس الاشراف الثلاثي الذي حددناه بالنسبة الى تأهيل الراشدين. وهذا سيفرض بلا ادنى شك قيوداً على المشروع، ولكن المشروع يستفيد من ذلك على المدى المتوسط والقريب.
وهذا يفرض اكراهات على المثقفين، ولكن هذا هو شرط ارتباطهم بالممارسة.
وهذا يفرض على الشغيله وعلى مندوبيهم ونقاباتهم مهام جديدة، ولكن هذا هو الطريق الوحيد الممكن نحو التسير الذاتي.
الطريق الوحيد لوضع حد للحواجز المدرسية وللفواصل الاجتماعية.
ولسوف تتجدد المدرسة بحصر المعنى تجدداً كاملاً في بناها بالذات.
وسيكون من المناسب، أولاً، أن يؤخر سنة واحدة موعد الدخول الى المدرسة بحصر المعنى، لأن تعلم القرأه على سبيل المثال في سن السابعة أسهل بكثير مما في السادسة.
وفضلاً عن ذلك، فإن هذا التأخير سيتبع تطوراً اكبر لدور الحضانة ورياض الأطفال التي هي نقطة انطلاق حاسمة لكل تربية لاحقة.
وبذلك سيتاح للطفل أوسع المجال لممارسة وسائل التعبير والإبداع الشخصي: الرقص، الموسيقى، الرسم، التعبير الجسماني، الإبداع اليدوي، الخ.
وبعد ذلك، وطوال سنوات تسع، من السابعة الى السادسة عشرة، ينبغي أن يتردد الطفل على مدرسة واحدة يمكن له فيها، مهما تكن ميوله، أن يتابع اختياره إلى النهاية من دون أن يتخبط في الطرق المسدودة الكثيرة التي ضربت التقنية مثالاً بيانياً عنها.
وهذا يفترض بالأصل ملاكاً موحداً من المعلمين المؤهلين جميعاً بسنوات أربع من التعليم العالي سواء عملوا في دار حضانة أم في ثانوية أم في كلية.
وهذا بالطبع شريطة أن يكون في مقدور غير الجامعين ايضاً أن يساهموافي التعليم على جميع المستويات: المهندسين، والنقابيين، والشغيلة الرفيعي الاختصاص، والفنانين، والباحثين، الخ.
وينبغي على الطلاب، جميع الطلاب بلا استثناء، أن يعملوا ردحاً من وقتهم في واحد من فروع النشاط القومي (مثلما هي الحال الان، وإن بصورة غير كافية ، حين يوزع طالب الطب وقته بين الدروس النظرية والمستشفى ، او حين ترسل مدارس المهندسين تلاميذها للتمرن في الورشات).
وهكذا يمكن الخلاص، رويداً رويداً من الغيتو (ghetto)الجامعي، ومن وسطه الاصطناعي، المنفصل عن الحياة العامة، والوبيل في نتائجة في خاتمة المطاف، ولاسيما أن العمال سيسلكون الطريق المعاكس بفضل إنقاص يوم العملوأسابيع التددريب الإضافي والتثقيف.
أما فيما يتعلق أخيراً بتحديث مناهج التعليم، فقد آن الاوآن لزيادة إنتاجية المدرسة عن طريق تزويدها بالإمكانات التقنية التي تملكها المشاريع الأكثر تقدماً.
ويوم نزاوج بين التعليم والإعلامية، ويوم نعتمد الناظمة الالية في تعليم جميع العلوم القابلة من الان لمثل هذا التنظيم (كما أثبت ذلك على اسطع نحو تعليم اللغات الحية)، نكون قد اقتصدنا اقتصاداً عظيماً في الوقت، وأتحنا مجالاً أوسع بكثير للتبصرالتحسبي والجمالي بصدد الغايات كما للمارسة الخلاقة على صعيد الفنون.
ويستطيع التلفزيون، في هذا المضمار، أن يؤدي دوراً حاسماً.
فاستبارات اليونسكو تنبئنا أن الأطفال في البلدان المتطورة يمضون مابين خمسمئة ساعة وألف ساعة سنوياً أمام الشاشة الصغيرة، وهي مدة تعادل تقريباً المدة التي يقضونها في المدرسة اذا اخذنا في حسابنا العُطل المدرسية وأيام الراحة. وتميط لنا الاستبارات نفسها اللثام عن أن الأطفال يشرعون بالترعرع والنمو مع التلفزيون في سن العاشرة، اما بالنسبة ألى الأطفال المتخلفين ففي سن الثالثة عشرة. وهذا يعني أن المعدل الوسطي للبرامج يتجاوب مع المستوى العقلي لطفل بين الحادية عشرة والثانية عشرة.
ليس التلفزيون، في الوقت الراهن إذن، (نافذة مفتوحة على العالم)، بل هو على العكس صورة زائفة وبليدة عن الحياة.
فالمتفرج على التلفزيون لا ،يكون تجاوز السادسة عشرة من العمر على سبيل المثال حتى يكون قد شاهد ستة الاف او سبعة الاف جريمة قتل.
إن العديد من المدراء (المسؤولين) عن التلفزيون الذين في حقيقتهم مرشدون لا واعون ولامسؤولون للوجدانوالوعي ينظمون عملية بث كثيفة للمالك المقولبة، غير الأصلية، خانقين الإنتاج والمنتجين الذين يصارعون ببسالة في سبيل تلفزيون إنساني الوجه.
يطرح التلفزيون في الوقت الراهن أذن من المشكلات أكثر مما يحل ولكنه يستطيع أن يحل المشكلات التي يطرحها.
وبالبداهة، ليس الحل أن تُنشأ (محطة ثالثة) مدرسية اوثقافية او جامعية تكتفي بأن تثبت، في حدود حد أدنى من الاقتباس والتعديل ، صورة متلفزة للدرس المهيب.
فمثل هذه الخطوة لن تكون إلا أداة إضافية للتلاعب والتحكم تتفاقم معها الثنائية بين من يعلم وبين من يتلقى بسلبية هذا التعليم.
إن الصعوبة العظمى إنما تكمن في إنشاء ( شبكة إرتجاعية ) تسجل ردود فعل المتفرج ونتيح له إمكانية التدخل .
فعلى صعيد البث في دارة مغلقة ضمن نطاق مدينة أو منطقة بعينها ، تتوفر الوسائل التقنية التي تتيح للطالب أن يطرح أسئلة وللمدرس أن يوقف بثه ليجيب عليها .
ويمكن أن يستغل المغنيط التسجيلي ، الذي بفضلة يساهم التلميذ أو الطالب في المناقشة وحتى في أخذ مناظر الشريط بدلاً من أن يقتصر دورة على الانفعال بما يعرض علية ، أقول: يمكن أن يُستغل المغنيط التسجيلي ، على صعيد خلق الوسائل واختيارها وتنظيمها ، في ابتداع شكل جديد للتعبير ، مختلف جذري الاختلاف عن الإنشاء اللفظي ، المهذار ، الذي أكل الدهر عليه وشرب .
ولكن التجديد لن يتأنى ، أساساً ، من تحديث تقنيات التعليم.
وإنما سيتأنى ، في المقام الأول ، من تغير البنى والمناهج والمضمون.
أي من تلك الثروة الثقافية، المواكبة لتغيير المؤسسات ولتغيير الضمائر ، حتى تتاح لكل فرد المساهمة في الصياغة المشتركة لغايات مشروع حضارة جديد ، والمساهمة في الصياغة المشتركة لغايات مشروع حضارة جديد، والمساهمة كذلك بصفته ذاتاً مستقله ذات سيادة، في التسيير الذاتي الاجتماعي على المستويات كافة: الاقتصاد ، والسياسة ، والثقافة.
تلكم هي الابعاد الكبرى لثورة اليوم.