المواطن/ كتابات – محمد فائد البكري
يسّرت مواقع التواصل الاجتماعي، إمكانية استقراء عددٍ من الظواهر التي كان البحث عنها في الواقع، يستلزم جهوداً كبيرة، تقف دونها عقبات كثيرة. وأصبح بالإمكان رصد عدد من الظواهر التي تكشف قراءتها عن بنية الوعي المجتمعي.
فمثلا نجد على مواقع التواصل الاجتماعي بين مدةٍ وأخرى صفحات تنشأ بغرض التضامن أو المناصرة، لقضيةٍ ما، وسرعان ما تتحول من صفحات تضامن إلى صفحات تلاسن تضج بالمناكفات و المهاترات والتقوّلات، والشائعات و التحريض و الاستعداء.
وهكذا تغرق القضية المراد التضامن من خلالها أو مناصرة أصحابها، في مستنقع الملاسنات و الشتائم، والغلواء، والسفه، والغوغائية، وبدلاً من أن يُستغل هذا الفضاء الافتراضي للتنبيه على المشكلة في حدود النقاش الموضوعي المسئول، غالباً ما يتعدى الحماس الافتراضي نبل التضامن ويقع في وحل التحريض،ليُعمم شعوراً حاداً بالاستقطاب والتحشيد، وربما تعدّى الاستقطاب للقضية إلى الاستقطاب المناطقي والجهوي والمذهبي والسلالي…إلخ.
وغالباً أيضا لا يُلتفت إلى أن الاتهام والتحريض يولّد استعداءً، ويجر القضية أو الظاهرة إلى خارج سياقها الموضوعي، ويعزل العقل عن ممارسة دوره في الحل ويحبسه في مربع الزعيق والنعيق. وعلى هذا المنوال تغرق المجتمعات في المشاكل وتهدر الطاقات، وتستهلك المبادرات النبيلة، وتجر إلى عداوات بينية لا نفع من ورائها بأي معنى لأي طرفٍ كان، وقد نجد بعض هذه الصفحات أو الهاشتاجات تطلق تحت مسميات مناطقية أوجهوية مثل ” كلنا عدن”،”كلنا تعز”….إلخ.
وبغض النظر عن كون ذلك مقصوداً منه المناطقية أم لا- فإن هذا النوع من التضامن يطابق تماماً في الفعل و النتيجة تلك الشعارات المشحونة بالاستقطابات على أساس سلالي أو عرقي أو مذهبي، وتماماً كما ترفع جماعة الحوثي و أنصارها شعار الولاء والبراء أو الدفاع عن المذهب الزيدي أو عن آل البيت، بذرائع مظلومية تأريخيه أو واقعية…إلخ؛ فكل هذه التضامنات تصدر عن ذهنية متعصبة، استعدائية، استعلائية، إقصائية، لا تؤمن بحق الاختلاف وتقبّل الآخر، ولا تنزع لروح القانون، وثقافة الدولة.
قد يكون الأمر متعلقاً برغبة صادقة في تسليط الضوء على معاناة إنسانية في هذه الجهة أو تلك، أو صادراً عن حسن نية في بعض ما يرفع من شعارات تضامنية لكن النتيجة تضر بالوطن والمواطن.
قد يظن بعض الناشطين على مواقع التواصل أن ما يقومون به من حملات يندرج تحت حرية التعبير، أو حرية الرأي أو حماية الحريات، وينسون أن مثل هذا الفعل قد يريد أن يعالج المشكلة لكنه فعلياً لا يعالجها، وكثيراً ما يتسبب بمشكلة أكبر، فمن جهةٍ أن هذه التصرفات تتيح لكل من لديه منبر أن يبادر للتدخل سواء كان تصرفه قانونياً أم غير قانوني، ولا ننسى هنا أننا مجتمعٌ يفتقر للوعي القانوني وللتنشئة القانونية، وغالباً ما تدفعنا العاطفة في جزئيةٍ ما إلى ما قد يضر بقطاعٍ واسعٍ من المجتمع و يدمر منظومة القانون.
كما أن مثل هذه التصرفات الإنفعالية تشَجع على أخذ القانون باليد، وكأنّ كل أحد من حقه أن ينصِّب من نفسه محتسباً ومفتياً وأحيانا قاضيا يحكم، وهكذا بالنتيجة تتآكل هيبة القانون ويتلاشى احترامه. ويُصادر على الغير حق التثبت مما يجري، ويُمارس التحريض والتهييج، و يُستغرق في التعميم إلى حد العمى والتعمية على الغير، ويُفتح الباب للتقولات والإشاعات، وربما قد يهدر حق آخرٍ بغير حق، نتيجةً للتسرّع والإندفاع والتشنج. كما أن هذه التصرفات تعزز من العدوانية وتنشّط الرغبة في الإدانة، ويوماً وراء يوم توقعنا في مزالق التنمّر وتوسع من رقعة خطاب الكراهية؛ فنستسهل الأذى ونخلط بين حقٍ يستوجب الدفاعَ عنه وباطلٍ يجب الإحتراسُ منه. وهكذا مجتمع يصبح مهيأً للشائعات وبيئةً خصبةً للمزايدات والمكايدات.
ومن جهة ثالثة يتم فرز المجتمع إلى مجتمعات، ويختلق من داخل المجتمع الواحد أكثر من آخر سرعان ما يجري تحديده وتنميطه و شيطنته ومحاصرته في مربع أسود و صولاً إلى شحنه بكل البغضاء التي تجعل منه هوية صغرى، خصوصاً تلك التضامنات الجهوية والمناطقية والسلالية وحتى الحزبية أو المضادة لها بتعميمات جهوية ومناطقية وسلالية وحزبية.
وبسطاً للأمر أكثر، من الملاحظ أن تلك التضامنات برغم ما تقدمه من إشهار لبعض القضايا، و كشف لبعض الوقائع، تعمد إلى التعميم وتجاوز حدود الحدث فلو أن مثلا واقعةً ما قام بها فلان من الناس، فغالباً ما يتحوّل التضامن من تنديد بالفعل إلى تنديد بأسرة الفاعل أو منطقته أو قبيلته أو حزبه، ويتم تجريم من لا جرم له، وتظهر مصفوفة من المقولات العنصرية والتلفظات التمييزية والأحكام المجانية.
كما من الملاحظ أيضاً أن تلك الهاشتاجات أو البيانات التضامنية على الفيس بوك أو الواتساب- برغم ما تقدمه من إشهار لبعض القضايا، وكشف لبعض الوقائع-لا تنجح في الحشد الموضوعي والنزول الميداني للاصطفاف في الواقع ضد الظاهرة السلبية، بحيث يُستنهض الوعي تجاه هذه القضية أو تلك الواقعة أينما كانت ويُشار إليها كفعل مخالف للقانون ومنافٍ لحق المجتمع، و بحدود القانون ومنطوقاته؛ فيتحقق بذلك تكوين قوة ضغط تسهم في رفع المسؤلية المجتمعية تجاه بعضنا بعضا ورفع الوعي القانوني.
وهذه السطور لا تقلل من أهمية التضامن ودلالته – بوجه من الوجوه- على حيوية المجتمع ولكنها تريد لفعل التضامن أن يتحوّل من معارك افتراضية إلى ممارسة واعية وسلوك مدني، بحيث يتم التضامن بحدود القضية المُثارة،وأن تكون الواقعة مشفوعةً بما يؤكد خرقها للقانون، حتى يتم تجنب التدليس والمزايدة، ثُم ليتلو ذلك تضامن في الواقع المعيش، يُجَسَد بوقفات احتجاجية أمام الجهات القانونية المختصة، لنضمن من خلال ذلك تسييد القانون و تثوير المجتمع وتقوية الرأي العام و ترسيخ المساءلة والشفافية، واحترام حق الآخر، والاحتراس من فتح الباب للشائعات. حتى لا تصبح التضامنات في الفضاء الافتراضي -على فرض حسن النية- مجرد تنفيس، و كلام في الهواء!