المواطن/ افق – وسام محمد
مافيش حد يتكلم عن زوجته في هذا العالم الأزرق المسمى فيس بوك سوى أوراس الإرياني. لهذا بستأذن منه عشان أشتي أكتب عن غزة هذا المنشور بمناسبة اكمالها المرحلة الاولى من اختبارات التقدم للدراسة في المعهد العالي للقضاء (اختبارات تحريرية استمرت اسبوع كامل والنتيجة ستظهر بعد شهر وفي حال نجاحها سيكون هناك مرحلة ثانية عبارة عن اختبارات شفوية ثم مرحلة ثالثة ستكون عبارة عن مقابلة شخصية).
طبعا هذه هي المرة الثالثة التي تتقدم فيها لاختبارات القبول في معهد القضاء. المرة الأولى تقدمت للاختبارات قبل زواجنا بعد سنة من تخرجها من الجامعة, لكنها لم تقبل هي وزميلاتها. لم يتم قبول أي طالبة.
في المرة الثانية تقدمت لاختبارات القبول في معهد القضاء بعد عام من زواجنا وكان هناك حديث عن كوتا نسائية ونسبة محددة لكل محافظة. لكن موعد الاختبارات جاء بالتزامن مع موعد ولادتها بهيلين. لهذا لم تتمكن من الحضور. وبالطبع لم يتم قبول سوى طالبة واحدة فقط من تعز. وتقريبا ثلاث طالبات في الدفعة كلها.
معهد القضاء في صنعاء لكن اختبارات القبول التحريرية في المرتين السابقتين كان يتم اجرائها في المحافظات. وهذه الاختبارات شكلية مثلها مثل الانتخابات في زمن صالح. الغرض منها اضفاء نوع من المشروعية على عملية القبول التي تتم بالوساطة حيث 99% ممن يتم قبولهم يتم قبولهم بالوساطة وغالبيتهم من أولاد القضاة وموظفي المحاكم وحصص لوزير العدل ومسئولين أخرين.
هذه المرة اختبارات القبول في عدن, بمعنى انها ترتب على المتقدمين الكثير من الاعباء, خصوصا اذا ما عرفنا أن هناك اكثر من 350 طالب متقدم من محافظة تعز وحدها من أصل ما يزيد عن 900 متقدم من باقي المحافظات. يتنافسون على 250 مقعد. 100 منها قد تم حسمها سلفا. 50 لطلاب دفعة سابقة اجتازوا مراحل الاختبار الثلاث وتم استبعادهم لكنهم احتجوا وانتزعوا حقهم و50 لموظفي المحاكم. ولا اعرف ما هو النص القانوني الذي يعطي موظفي المحاكم هذا الامتياز.
لست بارعا في الحساب وإلا كنت سأجري عملية حسابية حول حجم التكاليف التي يمكن لنحو 350 متقدم ان يصرفوها في عدن خلال أسبوع ونصف على الاقل في ظل وضع معيشي مكلف وقبلها خلال ثلاث أيام عندما تم تقديم الملفات في عدن قبل نحو شهر وقبلها تكاليف متابعة وتجهيز الوثائق. بالتأكيد سيصبح لدينا مبالغ باهض وبامكان أي شخص مهتم ودارس محاسبة يستطيع ان يقدر لنا المبلغ النهائي وبامكان شخص آخر لديه قدر بسيط من الخيال ان يبني لنا مشاهد قصيرة حول كيف تمكن الطلاب الذين يواجهون ظروف سيئة من توفير التكاليف مع اشارات عن امال اسر هؤلاء الطلاب ودعوات امهاتهم.
ايضا لست بارعا في تقدير حجم الجهود التي بذلت من اجل المنافسة على هذه الفرصة, حجم الضغوط. لا اعتقد انه يمكننا العثور بسهولة على شخص يستطيع ان يقدر هذه الأمور. خصوصا أن حلم زوجتي غزة في أن تصبح قاضية كان معها من ايام خطوبتنا قبل ثمانية أعوام ومضى على أول محاولة قامت بها من اجل الضفر بالحلم ستة أعوام. وهي من بين الخمسة الطلاب المتفوقين في دفعتها في كلية الحقوق ودرست في الكلية طوعيا لثلاث سنوات.
والآن ما هو الثمن لكل هذا التعب؟
بالطبع حديث عن أن المائة والخمسين المقعد سيتم تقاسمها بين جلال هادي والمجلس الانتقالي ووزير العدل ولجنة القبول. وحديث عن انه لا يحق لابناء تعز الحصول على مقاعد.
هذا ليس حديثا مناطقيا. بقدر ما هو حديث عن طبيعة النظام الذي يحكمنا والذي تصبح فيه النزعات المناطقية مجرد تحصيل حاصل. حديث في آليات صناعة التعب واهدار الجهود وسرقة حياة الناس واحلامهم وكما في الحرب قتل كل شيء. طريقة القبول هذه عملية تتم في مختلف الجامعات وليس فقط في معهد القضاء. في كليات الطب والهندسة وفي تلك الاقسام والتخصصات التي توفر فرصة عمل شبه أكيدة بعد التخرج ما بالكم ومعهد القضاء هو تقريبا اخر مؤسسة توفر امتيازات للطالب من لحظة قبوله كسكن وتأمين صحي واعاشة شهرية.
لكن ثمن عناء 900 طالب سيبقى في ان يكون اختيار ال 150 بناء على نتائج الاختبارات والشروط المحددة. مهما كانت هذه الشروط. هذا هو الاختبار الأول الذي يتعرض له العدل في بلادنا كل عامين تقريبا ويسقط فيه المرة تلو الأخرى.
بالنسبة لي كشخص يحاول دعم زوجته ومساعدتها في أن تحقق حلمها, أعرف أن دوري سيتحدد من هذه اللحظة في ابتكار أساليب جديدة في المواساة.
لهذا أصبحت اراقب معنوياتها دون أن تشعر, ودون أن يبدو وكأنني أهتم لما سيترتب لاحقا سواء ايجابا او سلبا. لكني تهورت وسألتها: غزة أيش توقعاتك بعد اسبوع كامل من العناء؟ لم اقل بعد ست سنوات او ثمان يجب حصر العناء في أضيق نطاق ممكن.
كان ردها الذي فاجئني: عندما أموت أكتبوا على شاهد قبري هنا ترقد قاضية المستقبل غزة السامعي, كما في تلك القصة التي ترددها دائما عن رئيس تشيلي سلفادور الليندي.
ردها هذا عزز عندي قناعة سابقة, بأن الاصرار على تحقيق الحلم حتى وان كان شخصيا, الاصرار على تحقيقه بنزاهة كاملة هو مقدمة ضرورية للخروج من هذا المستنقع. كما في قصة الرئيس المغدور الليندي الذي أمن بالديمقراطية وخاض الانتخابات أكثر من مرة بطرق نزيهة في بلد هش ويتحكم به فساد سياسي واخلاقي وتدخلات خارجية قذرة. فشل اكثر من مرة لكن ايمانه جعله يصل الى الرئاسة. صحيح انه تعرض لعملية انقلاب بشعة بعد ذلك وضحى بحياته لكن يكفي انه أمن بحلمه وترك لنا قصة كفاح عظيمة وتلك المقولة الخالدة التي استعارتها غزة في ردها: عندما أموت أكتبوا على شاهد قبري هنا يرقد رئيس تشيلي القادم.
بالطبع لا اعتقد انه من المتعذر علي ايجاد وساطة تختصر المسألة كما يفعل الاخرين, او حتى مجرد المحاولة. لكني لا استطيع تخيل نفسي وانا أقوم بذلك. حتى لو كانت تستحق فرصة الدراسة في معهد القضاء بمجهودها والوساطة فقط ستعطيها حقها, فهذا سوف يؤثر عليها مستقبلا. مهما اصبحت قاضية ناجحة ستبقى تتذكر أنها نجحت بوساطة وهذا سينعكس على ادائها وعلى ثقتها بنفسها. وبالطبع سيجعلني شريكا في الجريمة التي لن اتسامح معها.
يجب علينا أن نضحي المرة تلو الأخرى حتى نستطيع الحصول على حقنا بأفضل طريقة ممكنة, وبما لا يترك الأخرين يعتقدون أننا قد سرقنا فرصهم وحياتهم كما هو الوضع السائد حاليا.
هذه أحد ملامح مأساة الطبقات الوسطى. لكن ما بالنا بالطبقات الشعبية التي لا يستطيع ابنائها اكمال دراساتهم او حتى ان يكون من حقهم أن يحلموا؟
…….
من صفحته على فيس بوك