بلال الطيب
القضية اليمنية كانت حاضرة في مُؤتمر القمة العربية الذي عُقد أواخر أغسطس من العام 1967م – بعد نكسة حزيران – بالخرطوم، وكان من قراراته تشكيل لجنة ثلاثية من العراق والمغرب والسودان، تُشرف على وقف الإمدادات السعودية للإماميين، وعلى انسحاب القوات المصرية المُساندة للجمهوريين، وإجراء استفتاء شعبي يُقرر فيه اليمنيون النظام الذي يرتضونه، تُشكل على إثره حكومة ذات قاعدة عريضة، ومن جميع الأطراف.
لم يكن الجمهوريون والإماميون راضون على تلك الاتفاقية، ففي 8 سبتمبر من ذات العام أعلن الرئيس عبدالله السلال بأنَّه لن يلتزم بها؛ لأنَّه يعتبرها مثل اتفاقية جدة 1965م السابق فشلها، وفي الجانب الآخر، وفي ذات اليوم أعلن من بيروت رئيس وزراء الإماميين الأمير الحسن بن يحيى حميد الدين بأنهَّم لا يعتبرون أنفسهم طرفًا في تلك الاتفاقية، حتى ينسحب المصريون من الأراضي اليمنية.
موقف الرئيس السلال أحدث شرخًا في العلاقات اليمنية – المصرية، زاد اتساعه أكثر حين رفض مجيئ اللجنة الثلاثية، وبمُجرد وصولها إلى صنعاء بطائرة وحماية مصرية 3 أكتوبر 1967م، حرض الشارع عليها، وقيل غير ذلك، وما هو مُؤكد أنَّ الجماهير اليمنية خرجت غاضبة بمظاهرة عارمة نظمتها قوى اليسار الجمهوري.
خرجت المسيرة من أمام المستشفى الجمهوري، لتتعرض لحظة وصولها إلى مقر القيادة المصرية لإطلاق نار؛ ما أدى إلى سقوط مجموعة من المُتظاهرين بين قتيل وجريح، استغلت قوى إمامية مُندسة تلك الحادثة، وتطور الأمر إلى اشتباكات بين قوات مصرية وقوات يمنية، قتل فيها حوالي 30 جنديًا مصريًا، وقيل أكثر من ذلك.
عادت اللجنة الثلاثية أدراجها، واكتفت بالمُراقبة عن بُعد، ووصل من استهزاء رئيسها محمد أحمد محجوب أنْ خاطب رئيس الوزراء محسن العيني بالقول: «هل أنا رئيس وزراء السودان أم اليمن، وإني لا أتساءل ما هي هذه اليمن، وماذا تساوي؟!».
قام المُعارضون للرئيس السلال بحركة 5 نوفمبر 1967م، اعتبر البعض أنَّها جاءت تنفيذًا لقرارات وتوصيات مُؤتمر الخرطوم، واجتمع لمُواجهة ذلك قادة سياسيون وعسكريون، وبعض قادة التكتلات الحزبية، سُر الإماميون لتلك التباينات، وفسروه بالانشقاق الخطير؛ وبالفعل أجادوا استغلاله، ساعدهم في ذلك انسحاب القوات المصرية، ومعها كل أسلحتها ومعداتها، ومغادرة الخبراء السوفيت، وضعف الجيش الجمهوري، وعدم إمداده بالسلاح والذخائر، وهكذا كان أصدقاء النظام الجمهوري وأعداؤه – كما أفاد وزير الخارجية حسن مكي – على السواء، يرون أنَّ قُدرته على الصمود والبقاء تقترب من درجة الصفر.
قال الملازم أول طيار فارس سالم الشريفي أحد المُكلفين باستلام مطار الحديدة من القوات المصرية قبل مغادرتها اليمن، أنَّ مدير العمليات المصري خاطبهم يومها قائلًا: «لقد اشتركنا مع القيادة اليمنية في وضع الخطة الدفاعية عن صنعاء، ورغم ذلك نقول لكم: أن تقديراتنا للمُوقف أنَّ صنعاء سوف تسقط، إلا أنْ تحل مُعجزة».
محسن العيني – رئيس الوزراء حينها – هو الآخر قال في احدى شهاداته أنَّ جمال عبد الناصر قال له: «لا تشددوا، فنحن في ظروف عصيبة، وكل شيء يتوقف على شعبكم وقواتكم المُسلحة».
كما أورد القاضي محمد إسماعيل الحجي – أحد المفرج عنهم من المُعتقلات المصرية بموجب اتفاقية الخرطوم السابق ذكرها – أنَّ عبد الناصر التقاهم بالقاهرة، ونصحهم بمُصالحة الإماميين، وحين رآهم أكثر حماسًا، قال ناصحًا: «احمدوا الله على سلامة رؤوسكم، ماذا تعملون وأنتم بعدد الأصابع، بينما الجيش المصري بكل عدته وعدده لم يحقق الغرض المنشود».
حين اشتد حصار صنعاء، واستبسل المُقاومون الجمهوريون في الدفاع عنها، تغير الموقف المصري، وموقف الزعيم جمال عبد الناصر، تناسى الأخير جراحات مظاهرة أكتوبر السالفة الذكر، ووجه بإرسال أكثر من خمسة ملايين طلقة رصاص شرفا وجرمل بكراتين المانجو – ماركة قها تحديدًا؛ وذلك حتى لا يُلام على نقضه اتفاقية الخرطوم، وقدمت حكومته قرضًا بـ 40 مليون جنيه.
وفي ذات الصدد ذكر حسن مكي – وزير الخارجية حينها – أنَّه التقى عبدالناصر أثناء الحصار، وأنَّه وجد قلب وشعور الرجل أكبر من أي مساعدة؛ فقد أعطاهم روحًا معنوية بفرحته وسعادته لسماع أنَّ صنعاء لن تسقط، وخاطبهم قائلًا: «القاهرة هي صنعاء، وإذا سقطت صنعاء سقطت القاهرة».
من جهته أشار سنان أبو لحوم في مُذكراته أَّنَّهم توجهوا أواخر فبراير 1968م إلى القاهرة، بوفد رسمي برئاسة رئيس الوزراء الفريق حسن العمري، وأنَّ المصريين استقبلوهم بحفاوة بالغة لم يلقوها من قبل، وحين التقاهم عبدالناصر أبدى أسفه لما حدث من قبل، وخاطبهم قائلًا: «أنا خُدعت، وأسأنا إلى الشرفاء والثوريين ممن لهم التأثير في حياة اليمن، وأبارك لكم الانتصار، فانتصاركم هو انتصار لنا ولتضحيات مصر التي لم تذهب هبا، وهو رد اعتبار لي، ودواء لجروحي بعد النكسة..».