المواطن/ كتابات – أ.د. محمد أحمد علي المخلافي
الهُوية هي رابط الانتماء إلى أمة ووطن. والمواطنة وما يترتب عليها من حقوق وواجبات تحقق هذا الانتماء وتحميه وتحافظ عليه. فهي ارتباط بوطن محدد ودولة، بما يحقق الانتماء لهذا الوطن وهذه الدولة، ويمثل هذا الانتماء الهُوية الوطنية للمواطن الفرد والشعب. ويتحقق هذا الانتماء بالفعل في ظل توفر مقومات المواطنة: المساواة، الحرية، المشاركة والمسؤولية، والعدالة والإنصاف. وبالمواطنة تحقق الانتماء. والمواطنة والانتماء يعززان الهُوية الوطنية الجامعة، إذ أن المواطنة تعني تمتع المواطن بكافة الحقوق المدنية والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية دون تمييز، وغياب أو استبعاد مبدأ المواطنة يعني فقدان حقوق المواطنة الذي يترتب عليه فقدان الشعور بالانتماء إلى الوطن وعدم الولاء للدولة، وبالتالي فقدان الشعور بالهُوية الوطنية.
وهذا الانتماء في اليمن صار مستهدفاً جهاراً نهاراً، خاصة بعد إعلان جماعة الحوثي رسمياً التمييز العنصري كعقيدة، وتبني الهُوية العقائدية غير الوطنية، ومسعاها إخراج شريحة من شرائح المجتمع اليمني- الهاشميين، من النسيج اليمني، والتنكر لتاريخ اليمن وثقافته وتراثه وقوميته العربية، وهي العناصر التي تشكل مجتمعة الهُوية اليمنية.
والمواطنة تقتضي من الفرد والجماعة الإقرار بالمساواة، والعدل، والإنصاف، والشراكة، والتنوع، والتعدد، كشروط لا غنى عنها لحماية الهُوية الوطنية الجامعة.
لقد دمرت حرب 1994م، وامتدادها حرب 2014م، نسق القيم الوطنية، وأحلت محلها قيم سلبية تجاه الوطن ومصالحه، واستهدفت نتائجها مباشرة، المواطنة، ومنع بناء دولة المواطنة، وذلك بإلغاء المادة (27) من الدستور بشطب الحق في المساواة أمام القانون وعدم التمييز، فأجازت التمييز دستوراً وقانوناً، وجسدته ممارسة وسلوكاً. واليوم يعلَن التمييز العنصري رسمياً كعقيدة لجماعة الحوثي. والتمييز بين المواطنين يمثل المدخل الأساسي لتفكيك الأوطان ودوافع الانفصال، إذ عادت بعد حرب 1994م إلى الواجهة دولة القبيلة والعسكر ورجال الدين، والحكم بثقافة شيوخ الدين والقبائل والعسكر، وكرست هذه الصورة في مناطق سيطرة الانقلاب نشوب حرب 2014م، التي أعادت دولة العنصرية والطائفية السلالية والمذهبية. بينما المواطنة التي تحقق الانتماء الوطني تعني رفض الاستبداد والعنصرية والطائفية، ودولة المواطنة لا تكون إلاَّ دولة مدنية، أي الدولة غير القبلية أو الدينية أو العسكرية، وهي الدولة التي لا تميز بين المواطنين، ولا تضيق على حرياتهم، ولا تحرمهم من الحق في المشاركة في تقرير إدارة شؤونهم، أو تظلمهم، أو تميز بينهم في فرص شغل الوظيفة العامة أو النشاطات الاقتصادية والتجارية، كما فعلت سلطة ما بعد حرب 1994م، ويفعله اليوم الحوثيون بأكثر بجاحة وبإعلان التمييز العنصري رسمياً، وهذا السلوك وتلك الممارسة أوجدت تعارضاً مطلقاً مع جذر أو مرتكز المواطنة الذي يقوم على مبادئ: المساواة، الحرية، الشراكة، المسؤولية، العدل والإنصاف.
تضافرت عوامل التمييز الناتجة عن حرب 1994م والحروب المتصلة: حروب صعدة، وحرب 2014م المستمرة، وتفشي الفقر والمجاعة والخوف، فكان تراجع القيم الكبرى كقيم في مقدمتها المواطنة وفقدان الشعور بالانتماء وبالهُوية الوطنية الجامعة.
تراجع الولاء للوطن إلى الولاءات الأولية: القبيلة، المنطقة، السلالة والمذهب، وصارت ولاءات ما قبل الدولة أقوى من الولاء للوطن، والمجتمع والدولة. وزاد من سيطرة هذه الولاءات المستندة إلى رابطة الدم والعصبيات الصغرى تهميش الحرب وأطرافها للسياسة والأحزاب السياسية. ولم تتمكن من خلال الحرب إلاَّ الجماعات المسلحة ومراكز القوى القبلية المنتمية إلى أحزاب سياسية واتخذتها غطاء لها، لكن الانتماء الأقوى كان للقبيلة والعصبيات السلالية والمناطقية، وعلا شأنها كونها مصدراً للمقاتلين بلا ثمن.
وحتى الحركة الحوثية لم تكتفِ بكونها جماعة سلالية، بل تحولت إلى قبيلة مسيطرة على قبائل أخرى في شمال الشمال، وتعاملت معها بأسلوبين: تمكين القبائل الموالية من المال والسلاح والسلطة المحلية، أو ممارسة القمع الوحشي ضد القبائل التي أظهرت مقاومة لسيطرة قبيلة الحوثي السلالية، أو رفض سلطتها كما حدث مع قبائل حجور والبيضاء.
استخدمت دول الإقليم الولاءات الفرعية، بما في ذلك المذهبية والسلالية- الهُوية العقائدية، لتعميق الانقسامات مما أدى إلى صيرورة الحرب حرب الكل ضد الكل، وترتبت نتائج خطيرة على هذا الإضعاف للولاء الوطني، بوجود قوى على الأرض تفرض سيطرتها وتعلن تخليها مباشرة أو ضمناً عن الهُوية الوطنية الجامعة، وهي نتائج خطيرة على حاضر ومستقبل اليمن، ومنها:
وجود قوى تسعى علناً إلى تفكيك البلاد إلى دويلات متعددة.
إعلان القوى التي تحمل السلاح الولاء لدول أخرى كإيران أو تركيا، أو بعض دول الجوار.
فقدان الروابط السياسية والعمل السياسي بتغييب دور الأحزاب السياسية، وبالتالي فشل محاولات إيجاد كتلة تاريخية يمكن أن تحافظ على الروابط السياسية بين اليمنيين، وعلى رابطة الهُوية الوطنية، وأن تحقق بائتلافها إمكانية إنهاء الصراع المسلح وتحقيق السلام؛ إذ فشلت الأحزاب السياسية بتحويل التحالف الوطني للأحزاب والقوى السياسية، الذي تشكل عام 2018م، إلى ائتلاف حقيقي وفاعل.
تولد شعور غير مسبوق لدى الفاعلين السياسيين والمجتمعيين بأن نجاح الفرد أو الحزب أو القادة السياسيين معياره الارتباط بالخارج ومصالحه، وهو ارتباط يوفر المال والسلاح في ظل الفقر والفاقة، فانهارت القيم أمام الحاجة، ومن تمسك بالقيم يعيش مرارة اللوم، والنعت بالفشل، ومع الزمن قد يشعر فعلاً بالعجز والفشل.
استمرار الحرب لأنه صار المصدر للثروة أو العيش؛ خاصة بعد أن صير الحوثي العنصرية عقيدة وأعلن الهُوية العقائدية.
فقدان صوت وتأثير الرأي العام، وخاصة الرأي العام الذي يشكله المثقف المنتج للثقافة والمثقف الحركي الذي يوصل الثقافة إلى أفراد المجتمع.
لعل الأخطر من هذه النتائج المترتبة على الحرب وتعطيل مبدأ المواطنة، هي الواقعية المفرطة والزائفة الداعية إلى تحقيق السلام بالحفاظ على هذا الواقع، إذ أن السلام الذي يقوم على أسس طائفية أو سلالية، أو على أساس التمييز العنصري أو المناطقية أو القبلية، لا يقل فداحة وخطراً على المستقبل من استمرار الحرب ونتائجها الكارثية، التي ستتحول إلى نتائج مستمرة باسم السلام، فالسلام لن يتحقق إلا باتفاق شامل يقود إلى إزالة آثار ونتائج الحرب على أساس المواطنة التي تمثل ضمانة لاحترام القيم العصرية الكبرى: المواطنة الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وتوفير شروط ممارسة هذه القيم في الواقع المعاش، وبما يعزز من انتماء المواطن إلى الوطن والدولة، ويجعله يتمسك بالهُوية الوطنية والقومية ويعتز بهما.
وعندما يقوم السلام على أساس وضع اليد على أجزاء من التراب الوطني؛ يكون هذا السلام منشوداً من القوى التقليدية، التي تعتبر حدود الوطن هي حدود القبيلة، والساعية إلى استعادة ملك الأجداد من إمارات وسلطنات ومشيخات. وإذا كان صدور دعوات الواقعية لتحقيق سلام على أساس نتائج الحرب من هذه القوى مفهوماً، إلاَّ أنه من غير المفهوم أن نجد مثل هذه الدعوات تصدر عن شخصيات مثقفة يسارية. ودعوات مثل هؤلاء ليست إلا تفريط بقيم الوطن، سواء قصدت ذلك أم لم تقصد، وبمشروع اليسار نفسه القائم على قيم: بناء دولة القانون- دولة المواطنة، وبناء وطن مزدهر وقوي قادر على حماية سيادة الوطن ووحدته الترابية وحماية المجتمع؛ إذ أن الجماعات المسلحة والقوى والوحدات العسكرية غير التابعة للدولة والتي تفرض سلطتها في الواقع صارت متعددة ليس على صعيد الوطن فقط، بل وعلى صعيد كل منطقة صغيرة، كالألوية العسكرية التي لديها قيادات مختلفة، كما هو الحال في الساحل الغربي ومحافظة تعز، والقوى المتعددة والمختلفة والمتنازعة، والتي لا تتبع الدولة، وسيطرت على الأرض في الشمال والجنوب، وتبذل كل جهودها لتعزيز قبضتها العسكرية على الأرض والاستيلاء على الموارد العامة والخاصة دونما أدنى اعتبار أو مسؤولية لحياة السكان وأمنهم الاجتماعي، حيث تركت الأوبئة والجوع تفتك بالسكان. ونجد أن منطق هذه الجماعات منطق مختل، حيث تطالب الدولة المعتدى عليها، وفاقدة الفاعلية دون سواها، بدفع المرتبات ومكافحة الأوبئة القاتلة والتي في مقدمتها فيروس كورونا، والكل يعترف بهذه الحقيقة، وبأن القوى المسيطرة غير التابعة للدولة لا تمثل من قريب أو بعيد سلطة دولة أياً كان مستواها، وأخطر ما فيها الجماعات الطائفية السلالية والتنظيمات الإرهابية- القاعدة وداعش وأنصار الشريعة. وكلتا القوتين غير مؤهلتين للسلام بدون حشد قوى السلام بإمكانياتها وتوحيد فعلها. وأمام هكذا وضع يكون الأجدر باليساريين قبل غيرهم، والذي لا يقوم مشروعهم على وحدة الوطن فحسب، بل على الوحدة القومية والأخوة الأممية، أن يعملوا من أجل تحقيق سلام مستدام وعادل، أساسه المواطنة المتساوية، وقيمه النبيلة: المساواة والعدل والإنصاف.
إذن السلام الذي ينقذ اليمن وطناً وإنساناً، هو السلام العادل والمستدام الذي لا بد أن يحافظ على وحدة الأمة ويحل القضايا الخلافية، وفي المقدمة القضية الجنوبية، وإزالة آثار الحروب: حرب 1994م، وحروب صعدة، وحرب 2014م، ومن ثم يجب أن تنصبّ الجهود نحو التوصل إلى اتفاق سلام يوفر آليات تحقق بكل مبادئها وقيمها: المبادئ والأسس والقيم التي تضمنتها وثيقة مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، كمبدأ المساواة في الحقوق والواجبات وأمام القانون، ومبدأ الحرية ويشمل: حرية الرأي والتعبير، والتنظيم، والمشاركة في إدارة الشأن العام، والحق في الوظيفة العامة، والتملك، والسلامة الجسدية. وتحقق قيم المواطنة: المساواة، العدل، الإنصاف، والشراكة، ومقومات الدولة المدنية الأخرى: كالديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة الاجتماعية، وإرادة الشعب وسيادة القانون، وهذه القيم تمثل مقومات دولة القانون، دولة المواطنة، الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
تمثل قيم المواطنة وتحويلها إلى آليات دستورية، منجزاً عظيماً لليمنيين مجسداً في مسودة دستور جمهورية اليمن الاتحادية، كآليات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.
الأولوية الأولى لاتفاق السلام، هي استعادة مؤسسات الدولة، وممارسة دورها، وحماية المجتمع كله على أساس المواطنة، وهذه هي الخطوة الأولى لإنهاء الرغبات في التسلط، والتفكيك، والثأر، والانتقام، والعنصرية، والتمييز، وبآليات حددتها مسودة الدستور كالهيئات المستقلة، ومنها هيئة العدالة الانتقالية لكي تحقق العدل لضحايا الحروب والنزاعات خلال الفترة الانتقالية- ما بعد النزاع- والمشاركة في إدارتها من قبل مختلف القوى، وإعمال آليات العدالة الانتقالية، والمصالحة الوطنية المجتمعية بعد أن يكون اتفاق السلام قد حقق المصالحة السياسية.
بالمواطنة يتحقق الانتماء. لكن استعادة الشعور بالانتماء والمواطنة والهُوية الجامعة، بعد ما مر بها الإنسان اليمني من فضائع ودعوات للكراهية، وإعلان التمييز العنصري والهويات العقائدية، يتطلب عملاً فكرياً، وثقافياً واسع النطاق، تربوياً وإعلامياً وثقافياً، ينهض به المثقف الفردي والجماعي: من مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع وفي مقدمتها الأحزاب السياسية، وتكريس قيم المواطنة سلوكاً وممارسة لدى أفراد المجتمع، ولدى النشء على وجه الخصوص، من أجل تحقيق اندماج وطني، وخلق بيئة سليمة لوعي المواطن. ويكون تكريس الانتماء والمواطنة والهُوية الجامعة في الوعي عبر التربية، والثقافة، كضرورة وطنية لحماية الهُوية والمواطنة، وتعزيزهما بفاعلية مؤسسات الدولة والمجتمع السياسية والاجتماعية والثقافية والتربوية، فاعلية تحقق:
تنمية الإحساس بالانتماء والهُوية الجامعة.
تنمية المعارف والقدرات والقيم والاتجاهات، والمشاركة والمسؤولية تجاه المجتمع، والتمتع بالحقوق دون تمييز.
التأصيل النظري لمفهوم الهُوية والمواطنة والانتماء.
التغلب على نتائج وآثار الحرب والتدخل الخارجي بشؤون البلاد، والإعلاء من شأن قيم الحرية والاستقلال والسيادة وسلامة التراب الوطني.
المشاركة في إدارة الشأن العام.
تنمية قيم المواطنة.