المواطن/ كتبته – رئام الأكحلي
بإمكاننا الاستفادة من دروس الحرب أيضاً، القارئ لهذه العبارة سيستنكرها منذ الوهلة الأولى، ولكن ماذا لو تأملناها ملياً، ماذا لو حاولنا إسقاطها على واقعنا المُعاش، في ظل الأوضاع الراهنة؟ كيف يمكن أن تكون الحروب المستنزفة للموارد البشرية والإقتصادية لبلدٍ ما ذات نفع لها؟
لا يمكنني ان أجزم بأنني أمتلك الإجابة الشافية لتساؤل كهذا، ولكن يمكنني المحاولة على الأقل.
فلنرى ، ماذا لو قمنا بعصف ذهني بسيط، لمجريات الأحداث، على طريقة مدربي التنمية البشرية، حين يرمقون طلابهم بنظرةٍ عميقة تشبه نظرة “ترمب” حين يصرح بأنه وأخيراً قد قام بتنفيذ صفقة مع أحدى الدول النفطية، مقابل الحماية، ستمكنه هذه الصفقة من توفير فرص عمل لـ”عاطلي أمريكا“، وكأنه يقول لهم: ” لقد عثرت لكم على بقرة حلوب لن ينضب ما في جعبتها مادمنا نرعاها موهمين إياها بأننا لن نسمح بأن تمرر السكاكيين الحادة على عنقها”
وحين أقول عصف ذهني على تداعيات الأحداث، فأنني أتعمد تناول حقب تاريخية مضت في الشمال تحديداً، وأربطها باليوم، وربما بالمستقبل أيضاً.
فلنبدا إذاً باستعراض أنظمة الحكم التي مرت على اليمن “البائس”، إبتداءً بمرحلة الحكم الإمامي، تلك التي تعد من أشد المراحل سوداوية وظلالة، فلنختر لها مصطلح عميق يليق بمقال سياسي، وليكن النظام ” الأوتو قراطي“ ، أو بمعنى أخر نظام “الحكم الإلهي” القائم على سيطرة فرد أو جماعة أو حزب معين، متفردون بالحكم، ولكن ليس بديكتاتورية تعتمد على إكراه الرعية للخضوع لها، حيث أن الحاكم حينها لم يهدف إلى إخضاع الشعب بالقوة، بل أخضغهم له طواعية، بإسم الله وحقه المشروع في الولاية والحكم، وأي طريق أسهل إلى أدلجة الفرد والولوج الى عقله وإقناعه من طريق الدين واللعب على وتر العاطفة، والإنتماء الديني وإشباع احتياجه الروحاني، باعتباره احتياج أساسي فطر عليه البشر، ولكن بصورة فجة، وخداع ونفاق لا مثيل لهما، ولا يشابهه فيها إلا نظرائه في الانتماءات والطوائف الدينية المختلفة، حتى وان كانت مناوئة لها.
كانت نهاية النظام الأوتوقراطي أو الحكم الإمامي على يد ثوار السادس والعشرين من سبتمبر، حين أعلنت الجمهورية وسقوط نظام الأمامة، ولكن وكما هي طبيعة الحال وسنة الثورات، مرّت البلاد بعدها بالعديد من المراحل والتغيرات، وظهرت تداعيات مابعد الثورات جليّة في محاولات الاغتيالات التي استهدفت عددا من قادة الثورة، و الإنقلاب الرجعي الذي أطاح “بالسلال” أول رئيس جمهوري يتولى حكم اليمن بعد الثورة، ومن ثم وصول القاضي “الإرياني” إلى دفة الحكم ، ولم يلبث إلا فترة وجيزة، حتى قام “الحمدي” بالإنقلاب عليه، فيما سمي بالانقلاب الأبيض، حيث لم ترق فيه قطرة دما واحدة.
تولى “الحمدي” بعدها الحكم فيما يعد من أزهى مراحل الحكم، وحاول وضع خطة خمسية للنهوض بالقسم الشمالي، تمهيدا لالتحامه بالجنوب، أي أنه كان قد أسس للوحدة، وكان في طريقه إلى إعلانها -لولا الغدر الذي طاله- ولاتخفى حكاية اغتياله على أحد، ولا يخفى منفذوها أيضا.
الحاكم التالي الذي تولى حكم البلاد كان الغشمي، والذي اغتيل هو الآخر، ويقال بأنّ الرجل كان قد تسلم شنطة دبلوماسية تحتوي على قنبلة فتحها الرجل، وانفجرت به وقتلته والطريف في الأمر أن الشعب الذي كان يحكمه الغشمي حَوّل مقتله إلى مثل يضرب، فيقال للفضولي باستنكار: “الفضول قتل الغشمي”.
حسناً، فلنأتِ الآن إلى النقطة الأهم، والرجل الأبرز الذي حكم اليمن بعد مقتل الغشمي، وهو “علي عبد الله صالح”، أدهى الحكام، والراقص على رؤوس الثعابين، الثعابين التي تقاسمت معه السلطة بشقيها الثلاثة “الدين، والعسكر، والقبيلة”، أي أن الرجل كان قد ابتدع نظاما ثالثاً هجيناً، خلط فيه ما بين النظام الديكتاتوري والبيروقراطي، وهذا برأيي هو العامل الرئيسي الذي ساعده على الإحتفاظ بالحكم، وبعكس كل الحكام الذين سبقوه ، ركز صالح على بناء علاقات متينة مع مراكز القوى في الخارج، أما بالنسبة للداخل فالقوى التي لم يستطع استقطابها لصفه، أو إخضاعها، قام باختراق صفوفها وبالتالي تدميرها، أو بمعنى أصح، عمل على اخراجها من الصورة وبالتالي خمولها وركودها وإقصائها من المشهد السياسي، وهكذا ظل الرجل يمارس هذه السياسات حتى جاءت ثورة الحادي عشر من فبراير 2011، وأنهت حكم الرجل ظاهريا، ولكنها وبكل أسف لم تتمكن من إسقاط نظامه، حيث ضمنت المبادرة الخليجية خروجا مشرفا للرجل، ومكّنته من استكمال رقصه على رؤوس الثعابين، ولكن الثعابين التي كان يحاول مراقصتها في آخر أيامه، لم تكن تجيد الرقص، كانت أفاعي ألتهمت صالح والجمهورية، ومؤسسات الدولة، والثورة، وأحلام الشباب، وكل الجهود الدبلوماسية والسياسية، وكل الموارد الاقتصادية، حتى أنها ألتهمت الإغاثات أيضا، ولاتزال غالبية الشمال تحت هيمنة هذه الثعابين التي تعد امتدادا للحكم الأوتوقراطي، والهادف الى إحداث تغيير جذري في جميع الجوانب المجتمعية والدينية والاقتصادية، والسياسية، ولكنه تغيير نحو الأسوء في راديكالية سلبية مطلقة، بينما من المفترض أن يكون حكم المرحلة الراهنة عائداً الى مشروعية الشعب، وثورة فبراير ، والمتمثل “بشرعية الرئيس هادي” والذي لايزال عاجزا وحتى اللحظة عن استعادة غالبية الشمال من بين براثن تلك الأفاعي، أو حتى وعلى أقل تقدير “الرقص بمحاذاتها”.
والآن وبعد هذا العصف الذهني، والذي أعتذر عن إطالته، هل أتضحت الصورة ولو قليلاً؟ هل بات بإمكاننا القول مثلا: أن دروس الأمس يمكنها أن تكون شماعات فشل توصلنا إلى اليأس المميت تارة، وأطواق نجاة تارة أخرى؟
ماذا لو امتلكنا القدرة على قرائتها والإستفادة من عثراتها وبالتالي تجاوز المطبات التي كانت وماتزال تشكل عائقاً، أو وربما سداً منيعاً أمام الدرب المؤدية الى السلام، أو الحل المنشود لإيقاف الحرب التي ستستمر تداعياتها لسنوات عجاف حتى وإن أوقفت، ناهيك عن كارثية استمراريتها.