المواطن / كتابات _ فهمي محمد
كل هذه التحولات الجذرية والإرهاصات ذات الأبعاد المتعددة التي قادها فعل التغيير المرحلي أدت في مجملها إلى قطيعة تأريخية عميقة وليست قشورية مع كل ما هو تقليدي وممانع لمفهوم التقدم والتطور والتمدن والتعدد ، وأكثر من ذلك قطيعة مع كل ما هو متعارض مع العلم والعقل ومبادئ الإنسانية ، فعلى سبيل المثال فيما يتعلق بصلب حديثنا في هذه المقالة ، فقد شهد المجتمع الأوروبي على المستوى الأفقي “نشوء” المذاهب السياسية ومنظمات المجتمع المدني لاسيما ــ الأحزاب السياسية ــ التي قدمت نفسها كـ أدوات مدنية ووطنية تمارس الفعل السياسي بمفهومه المدني بناءً على مشاريع وبرامج سياسية قادرة على استقطاب الجماهير وتوظيفها في عملية التدافع السياسي الذي ساهم إلى حدٍ كبير في بلورة مفهوم التعددية السياسية وفتح الباب على مصراعيه أمام أسئلة كبيرة تتعلق بشرعية الوصول إلى كرسي السلطة وتتعلق بمفهوم المشاركة السياسية “لاسيما” فيما يتعلق بإدارة السلطة والثروة والقرار السياسي في الدولة الوطنية .
وحتى لا تتحول السياسة أو فعل التدافع السياسي في هكذا واقع متحول ومتغير إلى حالة من الإحتقان في ظل عدم التعاطي الإيجابي مع هكذا أسئلة ، فقد تم اللجوء إلى إحياء فكرة الديمقراطية بكل أبعادها الحديثة وتحويلها إلى نظام حكم وآلية سياسية تضاف إلى دولة المؤسسات والقانون بعد أن اكتملت شروط هذه الأخيرة ، بمعنى آخر أن الديمقراطية وفق آلياتها السياسية العملية والمدنية أصبحت قادرة على امتصاص حالة الإحتقان السياسي داخل الوسط الإجتماعي وداخل أجهزة الدولة وقنواتها السياسية، بل وتمكنت من إزالة أسباب هذا الإحتقان بشكلٍ جذري .
فالديمقراطية بناءً على هذا المنطق أسست أولاً : ــ
مجالاً سياسياً عاماً مفتوحاً أمام المكونات السياسية والإجتماعية ، أي مجال سياسي عام يقوم على مفهوم التعدد والتنافس السلمي الديمقراطي ، بعد أن كان مجالاً سياسياً محتكراً ومغلقاً وهي ثانياً : – حددت آلية عملية تنافسية تتعلق بطريقة الوصول إلى كرسي السلطة تعتمد على (عد الرؤوس وليس على قطعها ) على حد وصف الباحث على خليفة الكواري في معرض حديثه عن مفهوم الديمقراطية المعاصرة .
هذه الآلية العملية هي التي جعلت الديمقراطية قادرة على تجاوز فكرة الشورى التي مازالت حتى اليوم فكرة نظرية عائمة غير قادرة على تقديم النموذج العملي ، ناهيك عن عجزها طوال تجربتنا التاريخية عن التحول إلى نظام سياسي قائم كما هو حال الديمقراطية في التجربة الأوروبية التي جعلت المواطن في ظلها يشعر على الدوام بفكرة الإقتدار السياسي بدلاً من شعوره بحالة الإغتراب داخل بلده وموطنه كما هو حال المواطن في جميع الأقطار العربية .
على إثر هذه التحولات الثورية التراكمية والنوعية “لاسيما” فيما يتعلق بفكرة الحرية السياسية داخل التجربة الأوروبية؛ وجد المواطن نفسه أمام دولة مدنية مكتملة الأركان والشروط على المستوى الفوقي يحايثها في الواقع الإجتماعي على المستوى التحتي حامل موضوعي يتمثل بوجود نظام ثقافي تعددي عام وسائد يخلق واقعيا ومرحلياً بفعل التجذير والتأصيل للقيم المدينة والإنسانية والأخلاقية للحد الذي تحول في ظلها هذا النظام الثقافي العام إلى عقل جمعي أو جهاز مفاهيمي يتقاطع مع قيم الماضي وثقافته لاسيما ــ ثقافة العنف والإقتتال وفكر الإقصاء ــ وأكثر من ذلك أصبح هذا العقل الجمعي المدني حاضراً على الدوام ومؤثراً في العملية السياسية وغير قابل للمساومة أو التنازل أو حتى المساكنة حين يتعلق الأمر بمسألة الحقوق والحريات وهذا يعود كما قلنا بشكل أساسي وجوهري للدور الذي لعبته سلطة أهل الفكر التي مازال واقعنا العربي يفتقد لحضورها الفاعل والمؤثر والمحايث لفعل التغيير وعلى وجه التحديد في زمن الربيع العربي .
فالمثَقَف أو المفكر العربي مازال حتى اليوم يمارس دوره المتفرد كمتكلم وكاتب داخل هذا القطر العربي أو ذاك ولم يتحول وجوده المتعدد والمتفرد إلى عمل جمعي تقوده نخبة انتلجنسية متماسكة أو حتى عضوية متجانسة تشتغل على نقد الواقع السياسي والإجتماعي والإقتصادي والثقافي وتعمل على مطاردة الحقيقة دون هوادة أو تملق ، بل وتمارس فعل التغيير بعقل مفتوح وفاعل ، وبشكل يؤدي فعلياً إلى تأسيس سلطة أهل الفكر كسلطة حاضرة ومؤثرة في معادلة الصراع ، بمعنى آخر المثقف العربي أو المفكر العربي برغم عطائه النظري مازال حتى اليوم هو أشد الكائنات التي تعيش حالة من الإغتراب أو العزلة لحد التقوقع داخل محيطه الإجتماعي والسياسي .
أحد المعضلات في معركة التغيير العربية تتمثل بوجود فجوة كبيرة بين عطاء المثقف العربي ودوره التنويري ، وبين قابلية المجتمع العربي وحاجته لفكرة التغيير على اعتبار أن أسباب الثورة تظل قائمة ومستمرة ، وهذه المعضلة ساهمت بشكل كبير بوجود حقيقة تقول إن فعل الربيع العربي الذي اعتمد أساساً على حركة الجماهير الثائرة ، تحرك يومها دون نظرية ثورية أو فلسفة ثورية أو حتى مشروع ثوري متكامل يؤطر حركة الجماهير منذ البدء ، أو أن فعل التغيير تحرك كـ ( فرس مقطوع الرأس ) على حد وصف الصحفي الكبير “غسان ابن جدو” ، وللقارئ هنا أن يضع خطاً أحمرًا تحت عبارة ” مقطوع الراس ” ويقرأ ما يشاء من الدلالات وحتى المآلات المرتبطة بها = ( شكل مخيف ، عدم القدرة على رؤية الطريق والقاع الذي سوف تصل إليه النهايات ، وعدم القدرة على التعاطي مع الاحداث التي تواجه الثورة في معركة التغيير ، وعدم القدرة على استقطاب كل الشرائح والمكونات وحتى القوى الصامتة ) لأن رأس الثورة وتقاسيم وجهها الذي يحدد هويتها ، وحتى المستقبل بالنسبة لكل هؤلاء المطلوبين منهم الانضمام إلى ركب الثورة في زمن الربيع العربي كان غير موجود أو غير محدد الملامح بشكل كافي أو أنه مقطوع على حد وصف صاحبنا الذي لا نوافقه الرأي في كل ما يذهب إليه من نقد لثورة الربيع العربي ، فالثورة كفكرة – بلا شك – كانت وستظل هي المخرج للواقع العربي ولا غبار على ذلك من حيث المبدأ ، لكن فعلها الثوري يظل قابل للنقد والتصويب والتقييم وكذلك الحال ينطبق على الحكام في سلطة الثورة وعلى وجه الخصوص في اليمن فهؤلاء أسوأ نموذج أفرزه فعل التغيير الثوري في هذا البلد، إذ لم يكونوا هم مسبة الفكرة الثورية وعيبها الأسود بين الأمم أو أنهم خطيئة الفعل الثوري على الإطلاق لاسيما حين يراد من هذا الفعل تأسيس الدولة المدنية بمظهرها أو شكلها الإتحادي في اليمن …!!! .