المواطن/ كتابات – محمد عبد الوهاب الشيباني
منذ سنوات اعتدت ، في كثير من الصباحات، المرور عليه في مقر عمله في مركز الدراسات والبحوث ، ويشجعني على ذلك ان صاحبي من الذين ينهضون باكرا ، فيكون تقريبا ، بعد حراس المركز، اول الحاضرين الى مكتبه، مستغلا هذا الوقت ، وقبل ازدحام المركز بالموظفين وزوار المكتبة ورئيس المركز، في ممارسة رياضة المشي في الحديقة الخلفية للمكان.
بدوري استغلها مناسبة اضافية للتنزه برفقته في الحديقة ، ليس بهدف المشي ، فغالبا ما اكون قد انجزت حصتي باكرا قبل الخروج النهائي من المنزل ، وانما للاستماع لأفكار واخبار وطرائف و”حشوش” تسيل عذبة من فم احد الحكائين الكبار.
فمهما كانت قيمة الحديث الذي ننشغل به عميقا او عاديا و عابرا، فانه يجرك بفعل صفاء عقل رفيقك في المشي الى مساحات التفكير والجدل.
ففي الوقت الذي انطفأت او سكتت عشرات الاقلام الجادة والرصينة، عن الكتابة في الشأن العام، فلم يزل قلم ” قادري احمد حيدر “المستنير كصاحبه قويا وحاضرا في قلب المشهد ، جاعلا العابر والهامش والمسكوت عنه ، بفعل الخوف او التعالي، افكارا كبيرة للكتابة، التي تثير الاسئلة والجدل .
في كل موضوع من موضوعات الكتابة ، والتي تتحول عنده مع الوقت الى كتب في غاية الاهمية والوثوقية ، لابد ان يكون منغمسا في صلب الشأن الوطني براهنه وتاريخيته . صحيح قد يجبرك كثيرا على اجهاد ذهنك في القراءة والتتبع والربط بسبب غوصه العميق في الافكار وتمدد السياقات البنائية والكتابة بلغة صارمة ، لكنه يُخرجك بعد كل قراءة وانت مغسولا بماء المعرفة والتبصُّر النقي ، حتى مع تلك الافكار التي تختلف معها .
قراءاتي الباكرة لقادري انصبت ، مثل كثيرين غيري، في انصرافه الرئيس المتمثل في معاينة و تفكيك العلاقة الشائكة بين المثقف والسياسي ، الان وبعد ربع قرن ويزيد صارت هذه المعاينة مشغلا حيويا في قرابة خمسة عشر مؤلفا مطبوعا ومخطوطا ، تخوض جميعها في القضايا الفكرية والسياسية ، التي تشكل زاوية المعمار في تاريخ اليمن المعاصر السياسي والثقافي. ومن ابرز هذه المؤلفات ( ثورة 26 سبتمبر والمؤتمرات السياسية المعارضة الاولي ، البردوني : المثقف المؤسسة ساخرا، دراسات فكرية وثقافية ، الريشة والصولجان ـ عن الثقافة والمثقفين في اليمن ، المثقفون اليمنيون وحركة الاحرار الدستوريين ـ عبد الله علي الحكيمي نموذجا ، ثورة 26سبتمبر بين كتابة التاريخ وتحولات السلطة والثورة ، الاحزاب القومية في اليمن، الحضور التاريخي وخصوصيته في اليمن، القضية الجنوبية ـ قراءة سياسية وتاريخية ، اليمن في تحولات السياسة والواقع ، التسامح والموقف من الآخر بالتشارك مع الدكتور محمد المخلافي.)
وبمعاينة ولو عابرة في العنونة وسياقاتها التركيبية سنلحظ كيف ان اليمن بثورته وتحولاتها كموضوع كبير للفحص صار عند قادري مشغلا رئيسيا في انصرفات الكتابة لديه ، تماما مثل مقترباته من موضوع الثقافة والمثقفين ، فهو يكتب في السياسة متسلحا بعدَّة المثقف المستنير صاحب المنظومة المفاهيمية شديدة الوضوح، وفي الشأن الثقافي يكتب من موقع السياسي الملتزم وصاحب الموقف والرؤية غير المداهنة او المتلونة.
منذ نصف قرن وهو في معترك العمل السياسي ، وتحديدا منذ انخراطه في صفوف المقاومة الشعبية في مدينة الحديدة 1967، واول اعتقال له كان بعد مظاهرة طلابية في ذات المدينة اواخر العام 1968. انتمى الى حزب البعث العربي الاشتراكي باكرا لكنه اختار ان يكون ضمن اليسار الماركسي المنبثق من فصيل البعث الذي تسمَّى بـ “حزب الطليعة الشعبية” أواخر ستينيات القرن الماضي . وقد مثَّل الحزب في اللجنة الطلابية في جامعة صنعاء في العام 1974 ، ضمن فصائل اربع لأحزاب اليسار قبل الدمج ( اتحاد الشعب، والحزب الديمقراطي، وحزب العمل، والطليعة) بالإضافة الى حزب البعث، الذي كان يمثله آنذاك الراحل علي احمد القميري.
قبيل تخرجه بقليل اعتقل للمرة الثانية غداة اغتيال الرئيس الحمدي ، غير ان طالب الفلسفة والاجتماع الذي تتلمذ على يد اهم الاساتذة (ابوبكر السقاف وعبدالسلام نور الدين وعبده علي عثمان) كان اكثر صلابة وقوة ، واكمل تحصيله العلمي الجامعي أواخر السبعينيات.
في دمشق التي انتقل اليها في صيف 1981 تفرغ للعمل السياسي والاعلامي كأحد كوادر الجبهة الوطنية الديموقراطية ، وناشطا في الصحف المجلات البيروتية المعروفة. وفي العام 1984 وصل موسكو لمواصلة دراساته العليا التي اتم فيها دراسة الماجيستر في العام 1987.
عاد الى عدن في تلك الفترة ، ومنها بعد اشهر سافر الى دمشق ومنها عاد الى صنعاء مباشرة في ربيع 1988 ، حيث اعتقل للمرة الثالثة ولم يخرج من المعتقل الا مطلع 1989 .
رُتب وضعه الوظيفي في وزارة الثقافة بعد الوحدة ضمن الكادر المنتقل من عدن ،حيث تفرغ كلية لمجلة اليمن الجديد ضمن هيئة التحرير، ومع دمج مجلة “ليمن الجديد بـ ” الثقافة الجديدة ” صار مديرا لتحرير مجلة الثقافة . انتقل و بشكل نهائي مطلع العام 1997 الى مركز الدراسات والبحوث كمدير تحرير لمجلة ” دراسات يمنية” ، وخلال عقدين من الزمن صار احد العناوين الرئيسة في المركز , كباحث مجتهد تفرغ وبشكل خلاق للقراءة والتأليف، وفي مؤتمر الحوار الوطني بين المكونات السياسية بين 2013 م 2014 كان احد ابرز الفاعلين في مكون القضية الجنوبية التي اصدر عنها كتابا يقارب فيها السياسي والتاريخي بنباهة الباحث وضمير المثقف.