المواطن/ كتابات – عيبان محمد السامعي
ليس بمقدور أحد أن يأتي بحديث ولو جزئي عن تاريخ اليمن المعاصر, دون التطرق إلى الحزب الاشتراكي اليمني, وطابور طويل من مناضليه الذين اجترحوا مأثرة الوطنية اليمنية جنوباً وشمالاً.
ومن لديه معرفة بالتاريخ يدرك أن هذا القول لا يحمل أي مبالغة أو ادعاء.
يمثل الحزب الاشتراكي اليمني عُصارة الحركة الوطنية اليمنية بروافدها المتعددة ومدارسها المختلفة, وظلَّ يشير في مسيرته الحافلة بالعطاء وبالأحداث الجليلة إلى معنى أن التاريخ لا يهبط من السماء أو يأتي استجابة لرغبة ذاتية, بقدر ما يتشكّل من فعلٍ واعٍ, وقدرة على التضحية.
تقول وقائع التاريخ أن الإعلان عن ولادة الحزب الاشتراكي اليمني في 13 أكتوبر 1978م لم تكن سوى تتويج لمسار تاريخي طويل من البدايات والجذور التي تعود إلى العام 1953م حيث نشأت الخلايا الأولى لحزب اتحاد الشعب الديمقراطي أحد الفصائل المكونة للحزب الاشتراكي اليمني والذي كان يتزعمه المناضل الخالد عبدالله عبدالرزاق باذيب الذي رفع شعار (نحو يمن حر ديمقراطي موحد) قبل 67 عاماً وهو الشعار الذي لا يزال حتى اليوم على جدول أعمال الوطنيين, وإلى جانب اتحاد الشعب الديمقراطي كانت هناك فصائل أخرى وهي: حركة القوميين العرب التي تأسست عام 1959م ثم تحولت إلى الجبهة القومية عام 1963م في الجنوب وإلى الحزب الديمقراطي الثوري اليمني عام 1968م في الشمال, وحزب الطليعة الشعبية وحزب العمل اليمني ومنظمة المقاومين الثوريين.
وتقول وقائع التاريخ ـ أيضاًـ أن هذه الفصائل اليسارية قد خاضت نضالاً وطنياً وديمقراطياً واشتركت في تفجير ثورة 26 سبتمبر 1962م, والتخطيط لثورة 14 أكتوبر 1963م, وتحقيق الاستقلال الوطني في 30 نوفمبر 1967م, ثم الشروع في بناء الدولة الوطنية في جنوب الوطن, دولة النظام والقانون, التي أرست نموذجاً تنموياً منحازاً للطبقات الشعبية, وركزت على بناء الإنسان باعتباره محور التنمية وغايتها, وحققت المساواة بين كافة المواطنين, بغض النظر عن اللون أو الجنس أو النوع أو المنطقة أو الانتماء أو المذهب أو المكانة الاجتماعية, وأشركت المرأة في المواقع العليا في الدولة, فكانت منها القاضية والوزيرة والنائبة والمعلمة والطبيبة والجندية والشرطية, كما أدمجت المهمشين في مؤسسات الدولة وأزالت التمييز ضدهم, وقضت على الأمية والثأر, ووفرت الغذاء المجاني والتعليم المجاني والخدمات الطبية والصحية المجانية والإسكان والأمن لجميع المواطنين وعلى قدم المساواة, كما كان لها الريادة في مجالات الإعلام والثقافة والفنون, فأنشأت أول إذاعة وأول قناة تلفزيونية على مستوى الجزيرة العربية, وكانت الشوارع تتزين بالفرق الموسيقية والمسرحية والسينمائية والمكتبات العامة, وغيرها من المنجزات التي لا يتسع المقام لسردها.
وعلى الرغم من كل هذه الانجازات, كان هناك إخفاقات, وأخطاء.. والاشتراكي هو الحزب الوحيد الذي انتقد أخطائه وبشكل علني وبكل شجاعة وجرأة, ومن يطلع على الوثيقة النقدية التحليلية ووثائق مؤتمرات الحزب منذ 1987م وحتى 2014م سيجد ذلك, فالنقد والنقد الذاتي مبدأ أساسي في الحياة الحزبية, وهو “خبزنا اليومي” كما يقول الشهيد فتاح.
إن الحديث عن حزبنا الاشتراكي اليمني هو حديث عن اليمن العصري, عن التقدم الاجتماعي, عن الاستقلال والحرية, عن الوحدة اليمنية التي سعى الاشتراكي إلى تحقيقها بنية صادقة ومخلصة لكن الأوغاد لم يكونوا عند مستوى الحدث التاريخي, فخططوا ودبّروا وتآمروا لإجهاض الوحدة السلمية وحولوها إلى وحدة معمدة بالدم والحرب, فأثخنوا في جسد البلد الجراح التي لا تزال مفتوحة إلى يومنا هذا.
لم يكن دربنا نحن الاشتراكيون مفروشاً يوماً بالورود, بل واجهتنا الكثير من المتاعب والمصاعب والمحن, وحملات التحريض والتشويه والمطاردات والاعتقالات والاخفاء القسري والترويع والإرهاب والاغتيالات التي اشتركت فيها سلطات وقوى محلية واقليمية ودولية عديدة.
لقد دفع حزبنا الاشتراكي اليمني طوال الأربعة العقود الماضية فاتورة باهظة من دم قياداته وأعضائه ومناصريه, وعانى من الحصار والحظر غير المعلن لاسيما بعد حرب 1994م الظالمة, ولكنه مع ذلك صمد ببسالة وقاوم بشموخ, فكان له الفضل في تشكيل أول تحالف معارض عام 1997م (مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة), ثم أسهم بشكل متميز في تأسيس اللقاء المشترك عام 2002م, إذ كان الشهيد جار الله عمر مهندس اللقاء المشترك, ثم خاض غمار العمل السياسي التحالفي والمعارض للنظام السابق, وانخرط في إطار الحراك السلمي الجنوبي عام 2007م, وكان جزءاً أصيلاً من ثورة 11 فبراير 2011م, وكان للحزب بصمات واضحة ومميزة في الفترة الانتقالية وفي حكومة الوفاق وقدم رؤى وتصورات في مؤتمر الحوار الوطني وشهد له الجميع بتميزه, ثم انخرط مع أبناء الشعب والقوى الوطنية في مقاومة الانقلاب والمشروع الطائفي الكهنوتي. في كل محطة من هذه المحطات قدم الحزب التضحيات والشهداء والجرحى, واستحق بجدارة أن يكون حزب الشهداء وحزب التضحيات بلا منازع.
لم يكن حزبنا الاشتراكي اليمني وهو يقدم كل تلك التضحيات يسعى إلى بناء مجد خاص به أو تحقيق مشروع فئوي أو الحصول على مصالح صغيرة وضيقة, بل كان هدفه ولا يزال تحقيق المشروع الوطني الديمقراطي الكبير, مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة, دولة المواطنة والحداثة, دولة مدنية اتحادية تتسع لكل اليمنيين بكل انتماءاتهم ومذاهبهم ومناطقهم وفئاتهم وألوانهم.
لقد حاول الكثيرون وفي مراحل تاريخية مختلفة على إخراج حزبنا الاشتراكي اليمني من المعادلة السياسية وتحجيم دوره وإضعافه, مستخدمين أساليب الترهيب والترغيب لتحقيق ذلك, ولكن حزبنا ظل ولا يزال رقماً يصعب تجاوزه, حزباً مؤثراً على الساحة الوطنية, يناضل بعزيمة لا تلين وجهد لا يفتر.
إن قوة حزبنا الاشتراكي اليمني تأتي من كونه حزب ولد في خضم ثورة, حزب أتى من رحم الجماهير ومعاناتها ولم يأتِ بقرار سلطوي أو استجابة لحاجة ظرفية, قوة حزبنا تنبع من مشروعه الحداثي, من استشرافه للمستقبل وتخففه من الماضي وأوزاره, قوة حزبنا تستمد من إيمانه بالشعب ومن يؤمن بالشعب ويسعى لخدمته فلن تستطيع قوة في الأرض أن تهزمه أو تلغيه.
إن حزبنا الاشتراكي اليمني يفهم السياسة بأنها أداة نضالية ووسيلة للتغيير ولتحقيق المصالح الاجتماعية لعموم الشعب, وهي ترتبط ارتباطاً عضوياً بالأخلاق وبالقيم المبدئية, فالسياسة ليست تكتيكات آنية وليست ضرب من “الشطارة” أو “الفهلوة”, كلا.. فهذا فهم مبتذل للسياسة..!!
السياسة في مفهومها الصحيح هي فن الممكن الذي يترجم محددات الاستراتيجيا بشكل بنَّاء؛ فالسياسة محكومة بالنظرية العلمية وبالأخلاق الثورية. فنحن نفهم السياسة وفق مبدأ حاسم مفاده: “الغايات النبيلة لا تتحقق إلا بوسائل شريفة”.
والسياسة تعني القدرة على مد الجسور مع الآخر المختلف والوصول معه إلى قواسم مشتركة. أن تكون سياسي يعني أن يكون لديك قدرة على الانفتاح على الآخر والقبول به والتعامل معه كطرف له هويته وله الحق في الوجود والنشاط, أن تكون سياسي يعني ان تتغلب على العقد الأيديولوجية وتتجاوز الحواجز الاسمنتية وتتفاعل مع غيرك برحابة صدر.
هكذا يفهم حزبنا الاشتراكي اليمني السياسة, وهكذا يقدم نفسه للآخرين.. حزب يتعاطى مع الجميع, ولكنه يتعاطى بطريقة واضحة وشفافة, يتعاطى من منطلق التكافؤ والندية, وبما يخدم الناس ويحقق المشروع الوطني الديمقراطي الكبير..
لقد نحت حزبنا الاشتراكي اليمني طوال السبعة العقود الماضية في جدران التخلف والظلام, لتشع أنوار التقدم والحرية والقيم المدنية على أرجاء اليمن من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. وبرز في هذا المضمار الآلاف من الأعلام والشهداء والمناضلين والمفكرين والأدباء ورجال الدولة الذين تخطوا الحدود والحواجز وانتموا إلى اليمن وإلى الأمة العربية وإلى الأممية الانسانية.
لا يزال حزبنا مستمر في درب النضال الوطني والديمقراطي, ولا يزال يقدم التضحيات, تلو التضحيات.. ولا ينتظر مقابل من أحد ولا يستجدي أحد..
يواجه حزبنا اليوم الكثير من التحديات على الصعيدين العام والخاص, وهو ما يفرض المراجعة والتقييم الذاتي, فاليمن اليوم على مفترق طرق, وباتت المخاطر التي تهدد بقاءها ككيان وطني موحد أكثر من أيّ وقتٍ مضى, في ظل صراع المصالح وحرب الوكالة التي تخوضها قوى محلية واقليمية على الأرض اليمنية منذ خمس سنوات, سحقت الملايين من اليمنيين معيشياً ونفسياً ومادياً, وأحدثت دماراً هائلاً في البنى التحتية, وأضرّت بالنسيج الاجتماعي أفدح الضرر.
وهو ما يتحتم على حزبنا أن يسارع الخطى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه كخطوة أولى لبعث الحياة في جسد هذا البلد المثخن بالجراح.
إنّ تفادي تشظي اليمن إلى دويلات والإبقاء عليه ككيان موحد هي المهمة التاريخية التي تنتصب أمام حزبنا راهناُ, وفي هذا السياق لابد من تعزيز دور حزبنا في لملمة الصف الوطني وإدارة الاختلافات بطريقة خلاقة ومثمرة بروح وطنية مسؤولة, وعدم الاكتفاء ببث الشكوى, وفي هذا المضمار وكما يقول الشهيد الخالد جار الله عمر : “ينبغي على الاشتراكي عدم الاكتفاء بلعب دور الادعاء العام, بل عليه أن يساهم وبفاعلية في إنتاج الحلول العملية لقضايا ومشكلات بلادنا”.
سنظل على العهد باقون.. حتى تحقيق تطلعات الشعب في بناء يمن حر ديمقراطي اتحادي..