المواطن / كتابات- عيبان محمد السامعي
يستعمل د.أبوبكر السقاف مصطلح “البلقنة الاجتماعية” كتوصيف مكثف عن أزمة الهوية الوطنية التي يتشاطرها تفكك البنية الاجتماعية, وتعدد الولاءات العصبية. فالهوية الوطنية “هي رباط مستبطن يشد الناس جميعاً بعضهم بعضاً”, وبغيابها يغدو المجتمع “أشبه بجزر متناثرة”, فاقداً لخاصية الاندماج الوطني, فـ”ضمور الإحساس بالآخر” يجعل من كل “جزيرة” من تلك “الجزر المتناثرة” متشرنقة حول ذاتها, مفتقرةً لأية خواص علائقية إنسانوية تجاه نظيرتها, حيث “لا تغضب جهة إلا إذا مُسَّ حماها وما دامت النار في الجوار فهي باردة.”(1)
لقد ظل النظام السياسي طوال العقود المنصرمة, يقف في وجه أي مسعى لأن يتحول المجتمع اليمني إلى شعب بهوية وطنية؛ نظراً لطبيعته الاستئثارية وبنيته العصبوية التي لا تلتقي البتة مع شروط المواطنة. فغدت السلطة متوحدة ونهجها الانقسامي, مستوعبةً لدورها في تشظية (بلقنة) المجتمع, فهي تشتت ولا تجمع, “لأنها دائماً, تتوحد بجهة أو بمذهب. ولا تستطيع تأكيد وجودها إلا بإنكار وجود الآخر”, والنتيجة أمسينا كيانات “تتوازى ولا تتلاقى”(2), فنحن شوافع وزيود وإسماعيلية, وجبالية وتهامية وساحلية, وجنوبيين وشماليين, واتسع الخرق على الراقع بفعل تقدم الزمن, فأضحينا (تعزيين, وهضوبيين, وعدنيين, وأبينيين, وضالعيين, وحضرميين, ومهريين, …إلخ) وفي انتظار أن نصبح ما دون كل ذلك (حجريين وشراعبة وأصبور..إلخ)..!
إنها كارثة محققة, تتضافر مع طفح مشاريع صغيرة ورَثَّة, تتورط فيها نماذج متعددة من الأغبياء والسطحيين, تستعيض عن الهوية الوطنية الجامعة باستجلاب أصناف من الهويات: إما هويات تاريخية قد ردمها الزمن وأصبحت في خبر كان, أو البحث عن جذر ما ليشكّل مشروع هوية جديدة. وفي كلتا الحالتين تتوحد تلك النماذج ـ من حيث لا تعلم ولا تحتسب ـ مع مساعي القوى المسيطرة في إدامة الحالة الرعوية (أي أن نبقى رعية, مصيرنا مرهوناً بيد مشايخ وأشكال اجتماعية تقليدية أخرى). وإزاء كل ذلك يتحتم علينا مواجهة هذه المشاريع المجهولة وفضحها من خلال امتلاك الوعي الوطني الجاد والمسؤول, والنضال من أجل تحقيق “دولة بهوية اجتماعية وطنية مشتركة”.
في مفهوم الهوية
لنا أن نتوقف عند مفهوم “الهوية”(3), لنحدد المقصود منه وكيفية تحققه, وذلك على النحو الآتي:
أولاً: إن (الهوية) ليست قيمة طبيعية (فطرية) ثابتة ـ كما يتوهم البعض ـ, بل قيمة موضوعية خاضعة لشروط التطور التاريخي, تتحدد بناء على ظروف واحتياجات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ومعرفية.
فالهوية ـ كما يقرر المفكر محمود أمين العالم ـ ليست أقنوماً ثابتاً منجزاً جاهزاً نهائياً, بل هي مشروع متطور فاعل, مفتوح على المستقبل, فلكل مرحلة مجتمعية وتاريخية هويتها المعبرة عن مكتسباتها ومنجزاتها وممارساتها وأفكارها وعقائدها وقيمها وأعرافها السائدة.(4)
ثانياً: وهي ليست جوهراً أنطولوجياً, أي شيء معطى مسبقاً, بل سيرورة وإمكانية تحقق. فالتحديد المسبق لها, سيعني بأن شكلاً مسبقاً للتنظيم الاجتماعي يحدد فيه مواقع الأفراد, فالمكانة التي يكتسبها الفرد سواءً أكانت مكانة رفيعة أم خفيضة تأتي من شروط جذوره وأصوله أو انتسابه لفئة أو جماعة اجتماعية أو دينية أو ثقافية أو جهوية؛ وليس لكونه مواطناً ينتمي إلى مجتمع يتحدد موقعه فيه وفق مبادئ معيارية كالمواطنة والإنجاز والعمل والتنافس الخلاق.
ثالثاً: والهوية ليست أحادية البنية, فهي لا تتشكل من مقوم واحد فحسب, كالمقوم الديني أو الإثني القومي أو العرقي وحده, إنما هي مركب وحصيلة من اتصال وانقطاع وتداخل هذه المقومات جميعاً وإن برز إلى الصدارة أحد هذه المقومات على المقومات الأخرى(5), عوضاً عن أنها تتشكل في الأساس من هويات خاصة, هي هويات المواطنين الذين يتشاركون بفعالية في تشكيل المشهد الوطني العام, في إطار منظومة من القوانين والآليات واللوائح والأنساق المرشِّدة لتفاعلاتهم ولحراكهم الاجتماعي.
رابعاً: كما أنها ليست مغلقة على ذاتها مكتفية بها, إنما هي ذات طابع علائقي متفاعل فاعل مع غيرها.(6) فهي تتحدد بثلاثة عناصر:
• الأول: عنصر “الذات”, بوجهيه, الفردي والجماعي. ولا نقصد هنا بـ”الذات” كماهية, أو قيمة مجردة (أي معرفة الأنا, أو النحن), بل تعني الإدراك الواعي بها, من خلال معرفة متطلباتها, ومكمن مصلحتها الاجتماعية والإنسانية, وإمكانات تحققها كذات فاعلة متميزة, فالهوية تنطوي على خاصية التميُّز, وفي هذا الصدد تنبري عدة تساؤلات مهمة منها: ما الذي يميزنا؟؟ وما الذي نريد أن نتميز به؟؟ وكيف؟؟
• الثاني: “الآخر”, وهو بلاشك متعدد وواسع الدلالة, لكن ما يهمنا هنا, ذلك الذي يقف على طرف نقيض بالهوية التي وصفناها آنفاً (هوية اجتماعية وطنية مشتركة).
لقد أوضحنا فيما تقدم بأن ترويكا القوى المسيطرة بأصنافها المتعددة (قبائلية, طائفية, عسكرية, دينية, بورجوازية طفيلية) لا يمكنها أن تتعايش مع فكرة الوطن ومقتضياتها, أي أن يتخلق شعبٌ بهوية وطنية, تنبثق من القواسم الاجتماعية المشتركة التي تجمع أفراده, وعلاقة مواطنية تربطهم بالدولة, ما يضع تلك القوى موضع العدو اللدود للمجتمع ولتطلعاته في التغيير, وهو ما ينبغي إدراكه عند خوضنا في معترك الصراع, فليس منطقياً أن نرتكس ونفقد البوصلة ـ كما يحدث راهناً ـ باللجوء إلى هويات فرعية تسهم بشكل أو بآخر في تكريس السائد بأبشع صوره.
• والعنصر الثالث: “الوسيط”, أي طبيعة العلاقة التي تربط بين العنصرين المذكورين سابقاً, والفضاء الذي تنشأ وتتطور فيه. فهي من ناحية علاقة “إلحاقية”, تلحق الفرد أو المجتمع بالجماعة “العصبة”, فيفقد وجوده الكياني, وتجعله خاضعاً للتجاذبات الطرفية التي تخوضها تلك الجماعة مع نظراء لها. وهي من ناحية أخرى علاقة “اقصائية”, تقصي الفرد والمجتمع من المشاركة في صنع القرار الوطني والانتفاع من الثروة الوطنية.
خامساً: والهوية بقدر ما تعني التفرد والتميز, فهي تؤكد على حقيقة الاختلاف وضرورة التعايش, فلا وجود لهوية ما إلا بوجود نظير لها يتأثر بها ويؤثر عليها.
سادساً: والهوية لا تتحدد بالماهية الماضوية فهي ليست استدعاء للماضي أو الحنين إليه (نوستالجيا), بل تقتضي المشاركة الفعالة في الواقع الراهن, ورسم ملامح المستقبل. أو بتعبير آخر, هي لا تتحدد بالسؤال: ما نحن, ماذا كنا؟؟ بقدر ما هي تساؤل عن ماذا يجب أن نكون عليه, وكيف؟؟
سابعاً: كما أنها ليست موقفاً أيديولوجياً أو حالة عاطفية ديماغوجية, كما نجدها في الخطاب القومي أو الديني, حيث يتم اختصارها في شوفينية تعبر عن خرافة التميز البيولوجي ونقاوة الدم, أو يتم استخدامها كمترس في وجه الوطنيين الذين يتطلعون إلى التحديث والانتقال إلى مجتمع عصري, وهي كذلك ليست قناعاً مخاتلاً يجد فيه النظام التسلطي حاجته السياسية في البقاء واستمرار تسلطه عبر مقولاته المهترئة كـ”الولاء الوطني” و”الواجب الوطني” و”السيادة الوطنية”..!
ثامناً: والقول بضرورة الهوية لا يعني الدعوة إلى الانعزال والانكفاء على الذات, كما لا تعني التماهي السلبي مع دعوات الاستلاب والسير وراء خطاب الهزيمة. إنما تعني امتلاك أفق وطني إنساني ديمقراطي تحرري خلاق يتفاعل بإيجابية مع ضرورات العصر وينتج ذاته ضمن احتياجاته وأولوياته الاجتماعية.
نحو هوية اجتماعية وطنية مشتركة
انطلاقاً من الحيثيات والمقاصد الموضحة آنفاً, فإننا نزعم بأن أية معالجة للأزمة القائمة لن تؤتي أكلها إلا عبر عملية بنائية يتم فيها إعادة بناء الهوية اليمنية ضمن قالب اجتماعي وطني حداثي, ينطلق من المصلحة الاجتماعية المشتركة لعموم الناس, ويجاوز أيديولوجية “الفكر المسيطر” (مهدي عامل), كما ويجابه المشاريع الساعية إلى بعث هويات فرعية وانتماءات عصبوية مرذولة بمشروع سياسي اجتماعي وطني يعمل على نقل الصراع من موقع الطائفة أو الهوية أو العوامل الثقافية الأخرى, إلى موقعه الفعلي أي صراع اجتماعي سياسي؛ ذلك أنه مهما اتخذ الصراع (في مظهره الخارجي) من شكل سواءً الطائفي, أم الهوياتي الجهوي, أم الثقافي, أم الديني, أم العرقي فإن ذلك لا يلغي جوهره الفعلي بأنه صراع تاريخي، أي اجتماعي سياسي يتمحور حول إشكالية السلطة والثروة واستتباعاتها. وهو ما يفرض الحاجة ـ بحسب كارل ماركس ـ إلى تحرير المجتمع من القيود المادية والرمزية التي تكبله, كمقدمة أساسية ليتمكن من استرداد هويته الاجتماعية.
إن الهوية الاجتماعية الوطنية المشتركة تقوم على مبدأ المواطنة, كأساس علائقي مباشر يربط المواطن الفرد بالدولة ويحرره من كل نسق يصادر فردانيته, أو يجعله ملحقاً, في إطار مجتمع تعددي مفتوح, يتخذ من المجال العام فضاءً تداولياً تشاركياً ضابطاً لسريان مياه التفاعلات والتأثيرات المجتمعية والفردية التي تسهم في تشكيل متحد وطني اجتماعي توافقي عام.
بهذا المعنى فإن المواطنة ليست نقيضاً للخصوصية, بل العكس تماماً, فبقدر ما تقتضي الانتماء إلى الدولة بصفتها كياناً كليّاً, فإنها تمنح الفرد الحق في الانتماء إلى مشروع سياسي مدني أو خصوصية اجتماعية أو ثقافية شرط خضوعها لمحددات ومضامين القانون الكلي (الدستور) في سياق سلسلة من الانتماءات الخاصة (القانونية), التي تشكّل في المحصلة ألواناً زاهية للوحة فنية بديعة اسمها “الهوية الوطنية”.
في الختام نخلص إلى القول بأن أزمة الهوية الوطنية هي أزمة الحداثة, أزمة المواطنة, أزمة المشروع الوطني الاجتماعي البديل, وتعثر بناء الدولة الضامنة. كما أنها أزمة سيكولوجية تتجلى في حالة الفصام الاجتماعي بين شروط الواقع المادي وتحدياته, وبين تصور هذياني لهذه الهوية.
==== هـوامش :
- انظر: أبوبكر السقاف, دفاعاً عن الحرية والإنسان, إعداد: منصور هائل, منتدى الجاوي(1), د.ت., ص61-62.
- انظر: أبوبكر السقاف, مصدر سبق ذكره, ص63.
- تناول مفهوم “الهوية” ليس عملاً ترفياً كما نظن, بل مسألة هامة في سياق معالجتنا لأزمة الهوية الوطنية. وإجمالاً فإن “صراع الفكر بالفكر” (مهدي عامل) يتطلب تبيان المفاهيم؛ لأن التحديد السليم للمفهوم يقود بالضرورة إلى معالجة سليمة للظاهرة.
- انظر: محمود أمين العالم, الفكر العربي بين الخصوصية والكونية, دار المستقبل العربي, القاهرة, ط8/1998م, ص16-17.
- انظر: المرجع نفسه, ص18.
- انظر: المرجع نفسه, ص18.