المواطن/ كتابات – فهمي محمد
جزء كبير من مشكلتنا في اليمن وفي الوطن العربي عموما لاسيما بعد ثورات الربيع العربي التي رفعت شعار الدولة المدنية نجدها تتعلق بمحنة السياسة كفكرة دنيوية بشرية مع المتدينين فكرياً بالمفهوم الايديولوجي ، أو بمعنى آخر يجوز لنا أن نقول أن أحداث هذا الربيع الذي بشر بالخلاص الثوري لما نعيشه من مشكلات كبرى ، أصبح في الأساس كاشفاً لعمق المشكلة البنيوية التي تعاني منها السياسية مع المتدينين فكرياً بنفس المقدار الذي عانته السياسة منذي قبل مع الأنظمة المستبدة ( اشتراكية وقومية الخ ) التى لم تتدثر بالفكرة الدينية ولم تلوح بها في وجه الجماعة المحكومة ، لكنها في المقابل مارست عليهم الاستبداد وحتى الإذلال واحتكرت المجال السياسي العام تحت مبررات أخرى .
لكن الملاحظ أن محنة السياسة مع المتدينين فكرياً تبدو مشكلة معقدة وخطيرة في نفس الوقت على الجماعة المحكومة قياساً على محنتها مع المستبدون زمنياً ، لكون السياسية بجوهرها الخالي من الأدلجة والأحادية المطلقة تعيش مع هؤلاء المتدينين صراع مع أيديولوجيا صما تدعي المطلق والحقيقة ، واكثر من ذلك إيديولوجيا مضافاً اليها قداسة تتعلق بما هو روحي وقيمي وعاطفي لدى الجماعة التي غالباً ما تكون خاضعة بالفطرة لتخدير الفكرة الدينية التي يتم تداولها بعد أن تم تقشيرها وتحويلها إلى إيديولوجيا على يد بشر مفسرين ومجتهدين بمقياس زمانهم الماضوي وليس بمقياس زماننا ، بمعنى أخر يتم تداولها لا بكونها مادة ونصوص في التنزيل الحكيم تستوعب احداث الزمان والمكان ،
من هنا يصعب الانتصار في الواقع العربي والإسلامي للفعل الديمقراطي والمدني في مجتمع تقليدي يفرز غالباً قوى تعاني القصور المعرفي والعلمي وتعيش حالة من عدم الإدراك للخيط الدقيق والفاصل بين ماهو سياسي دنيوي مصدره الاجتماع البشري والمصلحة العامة للجماعة البشرية والإنسانية بغض النظر عن وجود الدين من عدمه وبين ماهو ديني معتقداتي مصدره الخالق في السماء ويقتضي منا التسليم له بالضرورة .
هذه العدمية في الإدراك هي المسؤولة في الأساس عن وجود المشكلة إبتداءً في مجتمعاتنا ، اقصد بالمشكلة محنة السياسة كفكرة مدنية بطبعها مع المتدينين فكرياً بالمفهوم الأيديولوجي الأحادي والمطلق ، وهي التي دائما ما تقدم الحلول السياسية لمشاكل المجتمع = ( مخرجات الحوار ، دولة مدنية ، دولة اتحادية مثلاً ) بكونها تبدو متعارضة مع الدين الذي تم تحويله على يد البشر إلى إيديولوجيات ممانعه ومتعددة بتعدد أسماء الجماعات المتدينة ايديولوجياً = / سلفيه / حوثية / إخوانية / ذلك على سبيل المثال في مجتمعنا اليمني .
ما يجب أن ندركه جميعا أن الدول والأوطان التي نحلم بها تبنى من الأساس بفعل سياسي ديمقراطي إنساني محظ وإمكانية ممارسة هذا الفعل السياسي واقعيا يشترط من جهة اولى وجود مجتمع تجذرت فيه قيم المدنية وتحولت في نفس الوقت إلى نظام معرفي ثقافي = ( الحرية ، العدالة ، القبول بالآخر ، التسامح السياسي والفكري والمذهبي ) كما أنه من جهة ثانية يشترط قبل ذلك ضرورة فض حالة الاشتباك القائمة بين الفكرة السياسة كمفهوم إنساني وبين الفكرة الدينية كمعتقد سماوي ، لاسيما عند هؤلاء المتدينين بالمفهوم الأيديولوجي .
عندما اتحدث هنا وبالتحديد عن المتدينين ايديولوجياً لا يعني قط أن الأخرين قد أصبحوا في نظري ديمقراطيين أو أن السياسة لا تعاني محنة كبيرة معهم وهي بلاشك قد عانت الكثير معهم ، بل ما اقصده أن السياسة مع هؤلاء المتدينين لاتستطيع بالمطلق ان تعبر عن نفسها بكونها مسألة دنيوية نفعية تقتضيها مصلحة الجماعة المحكمومة ، او بمعنى اخر تجد السياسة نفسها مع هؤلاء مؤطرة بما هو متعالى ومقدس وحتى غيبي ، في حين أن جوهر السياسية وحتى فعلها السياسي لا تعد أن تكون آلية او افكار مدنية عملية تتعلق بإدارة المجتمع الإنساني بعد أن تحول الوجود الفرد إلى جماعة إنسانية تعي ذاتها وتحمل الكثير من التجانس الضروري والصراع المستمر على المصالح في نفس الوقت .
فالسياسة بأي حال من الأحوال لا تقف عند حدود الدين كما لا يمثل هذا الأخير مصدراً لها بل هي تتجاوزه إلى ما هو إنساني محض فهي تتعلق بوجود الإنسان الاجتماعي بطبعه ، ولا تتعلق باي حال من الأحوال بوجود الدين كأيديولوجيا أو معتقد مطلق يميز امه عن أخرى أو شعب عن آخر ، وآية ذلك أنها من مسائل الضرورة ، بل ومطالبه بتقديم الحلول وقد نجحت في ذلك داخل المجتمعات الملحدة والعلمانية اكثر من نجاحها داخل المجتمعات الإسلامية التي تدعي أنها على الصراط المستقيم ، بينما هي صفرية في مؤشر النجاح على اكثر من صعيد ،
والسبب في الفشل هنا لا يتعلق بالمطلق بوجود الدين الاسلامي الذي انا شخصيا مؤمن بما ورد بتنزيله الحكيم من آيات صادقة اولها تلك التي تؤكد دنيوية السياسية وبشريتها = وأمرهم شورى بينهم / وشاورهم في الأمر ، بل يتعلق الفشل بما لم يحاثث هذا الدين من تحول على المستوى الثقافي والفكري المرتبط سياسيا بالبعد الاجتماعي والانساني منذو بواكير الدولة الإسلامية وحتى اليوم ، لكنه حدث عند الأخرين مع وجود دين لديهم وحتى بدون وجوده دين سماوي .
ما حدوث عند الشعوب الأخرى والذي يجب أن يحدث في واقعنا لاسيما عند هؤلاء المتدينين ايديولوجياً ، هو ذلك التحول الفكري والثقافي والمعرفي وحتى الأخلاقي ، والذي أدى إلى تحرير السياسة من سيطرت الدين والسلطان من ثلاث زويا غاية في الأهمية = فهي تحررت هناك بكونها فكرة مدنية بطبعها وبكونها علم دنيوي المصدر ، وبكونها ممارسة عقلية تتعلق بنجاعة الحلول الواقعية والتي تقاس بمقياس الخطأ والصواب وليس بمقياس الحلال والحرم ، والمقصود بسيطرت الدين والسلطان = ( المتدينين ايديولوجياً والحكام المستبدون زمنياً ) .
بهذا التحرر لمفهوم السياسة تكون المجال السياسي العام واستطاع المنطق السياسي العقلي وبدون وصاية وبعيداً عن مفهوم القوة والغلبة أن يؤسس تلقائيا قنوات سياسية مشروعة وطبيعية لممارسة الفعل السياسي والديمقراطي المدني والتعددي والذي من خلالهما تأسست الدولة المدنية وتحولت البلدان بكل مشاكلها الى أوطان لتعايش السلمي والمشترك وبشكل يتسع الجميع دون استثناء .
2019/4/5