سام أبواصبع
في الثاني والعشرين من مايو عام 1990، التقت جغرافيات اليمن، وتصافحت أيدي صنّاع الحلم في صنعاء وعدن، معلنين ميلاد وحدةٍ طالما سكنت وجدان اليمنيين كأملٍ كبير في العدالة والكرامة والانتماء. كان ذلك اليوم ذروة تطلعات جيلين، وانتصاراً لقيم النضال التي خاضها اليمنيون في سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر. لم تكن الوحدة مجرّد قرارٍ سياسي، بل تجسيدًا لروحٍ وطنيةٍ تاقت إلى التحرر من الاستبداد والتجزئة.
لكن بعد خمسة وثلاثين عاماً، يتوارى ذلك الحلم خلف غبار الحروب وخرائط الانقسام. الوطن الذي وُلد من رحم الوحدة، صار اليوم كياناً منكسراً، يمزقه العنف، وتنهشه الانقسامات، وتُغتال فيه القيم التي كانت جوهر مشروعه الوطني. من الشمال إلى الجنوب، ومن الساحل إلى الجبل، تتساقط أحلام اليمنيين كما تتساقط أوراق الأشجار في خريفٍ قاسٍ لا نهاية له.
الوحدة، التي رُفعت يوماً على سارية التطلعات، تحوّلت إلى شعارٍ أجوف أو تهمة جاهزة. أُفرغت من معناها، وصارت في أيدي السياسيين مجرّد شماعة للهيمنة، بينما بقي المواطن يدفع أثمان خيباتها، دمًا وفقراً وتشريداً. لم تعد قضية الشراكة هي المحور، بل الإلحاق والتهميش والتسلط.
ولم يكن هذا الانهيار محصوراً في الوحدة فحسب، بل امتد إلى كامل البنية الوطنية. القيم التي ألهمت اليمنيين عبر عقود من النضال – قيم الجمهورية والثورة والعدالة الاجتماعية – دخلت طور الاحتضار. ففي الشمال، تُبعث الإمامة من تحت ركام الحرب، مستحضرة منطق الحق الإلهي والاصطفاء السلالي. وفي الجنوب، تُستنسخ السلطنات والمشيخات على هيئة كيانات سياسية هشة، بلا مشروع ولا أفق.
في كل جهة من البلاد، تتسيّد المليشيات الواقع، ويُقايض المواطن على خبزه وكرامته وحقه في الحياة. في مناطق سيطرة الحوثيين، يتغوّل القمع تحت غطاء شعارات “الكرامة” و”الصمود”، فيُحرَم الناس من رواتبهم، وتُجبى أموالهم باسم “المجهود الحربي”، ويُلقّن أطفالهم أيديولوجيا الكراهية. أما في المناطق المحررة، فتتعدد السلطات وتتشظى المؤسسات، وتتآكل الدولة من داخلها، بينما تشتعل الأسعار وتنحدر الخدمات إلى دركٍ غير مسبوق.
خمسٌ وثلاثون سنة، والمواطن اليمني يتحول من صاحب قضية إلى ضحية، من حامل حلم إلى طاردٍ عن وطنٍ صار عالة عليه. وفي هذا المشهد المعقّد، تبدو الوحدة ليست مجرد ذكرى، بل مفترق طرق: هل تبقى حدثاً مدفوناً في دفاتر التاريخ، أم تبعث من رمادها كحلمٍ يتجدد؟
ليست الوحدة عقيدة سلطوية، ولا يافطةً لفرض الهيمنة، بل هي عقدٌ اجتماعي وسياسي لا يكتمل إلا بالعدل والمساواة والاعتراف المتبادل بين جميع مكونات البلاد. هي ليست ملكاً للسلطة، بل وعداً للناس الذين حلموا بدولة تحترمهم وتصون حقوقهم، لا تعاقبهم على الجغرافيا التي ينتمون إليها.
ولذلك، فإن استعادة الوحدة لا تكون بالشعارات، ولا بالخطابات التي تغطي التشققات، بل باجتثاث أسباب التمزق: العقل الإمامي الذي يعيد إنتاج الاستبداد في الشمال، والعقل السلطاني الذي يُنتج العزلة والانقسام في الجنوب، والمنظومة الطفيلية التي تنهب البلاد باسم الشرعية أو الثورة أو الهوية.
الوحدة، إن أرادها اليمنيون مجدداً، لا بد أن تولد على أسس جديدة: دولة مدنية، لا مذهبية ولا عسكرية ولا مناطقية. دولة مواطنة، لا دولة غنيمة. دولة تؤمن أن كل مواطن، أياً كان موقعه أو لهجته أو اسمه، هو شريك كامل، لا تابع ولا ملحق.
ربما خذلتنا النخب، وربما خانت الطبقة السياسية ذلك الحلم الكبير، لكن لا تزال شعلة الوحدة مشتعلة في قلوب الذين عرفوا طعمها ليومٍ واحد، أولئك الذين بكوا في صنعاء وعدن عندما سقطت الحدود، لا لشيء إلا لأنهم شعروا – لأول مرة – أنهم في وطنٍ واحد.
في الذكرى الخامسة والثلاثين، لا نرثي الوحدة، بل نرثي غياب الدولة. لا نعلن موت الحلم، بل نعلن الحاجة إلى يقظة جديدة، تبدأ من الشارع، من المدرسة، من الوعي، من الكلمة، من الصوت الذي يرفض الخضوع، ومن الروح التي لم تنكسر بعد.
الوحدة ليست تاريخاً، بل مستقبل. لكن ذلك المستقبل لا يأتي بالحنين، بل بالعمل والنضال، والمواجهة الصريحة مع كل ما دمّر اليمن، من الداخل والخارج، باسم السياسة والدين والهوية.
